الكلمات... كلمات سوريّة!

المازوخيّة كلمة. نستمتع بعذاباتنا المصفوفة بأناقة متفجّرة. والساديّة، كلمة أخرى. فنجلد أنفسنا لذنبها في ارتكاب نجاتنا! كلماتنا السوريّة مبتكرة، لم تسبقنا إليها أيّ كلمات!

الحرب، "كورونا"، الزلزال. كلمات سوريّة. النجاة، الموت، الحياة، الكتابة. هي كلمات سوريّة أيضًا.

تلاحقني رائحة بصل متعفّن. والأرض ما زالت تهتزّ بنا، من تحتها ومن فوقها.

الاختراع، البطاقة والذكاء، اليأس، الثورة، الماء، الكهرباء. هي كلمات سوريّة أيضًا.

منذ ثلاثة أيّام بلياليها لا كهرباء لديّ. فرغ شاحن اللاب توب. عليّ إنجاز مقالتي السند لمصاريف الشهر المقبل.

 صديقتي الحكّاءة المجنونة تدور في دهليزها يدوّخها، فتراوغه! تصفّ كلمات بأناقة متفجّرة. تنشرها فتضيء بعض عتمتنا الصلْدة. البعيدون عن دوراننا المزمن، يهلّلون للكلمات المتفجّرة هنا، داخل البلاد، يرون فيها بطولة!

البطولة كلمة. فنبتسم، ونمعن في تقشير حروف الكلمات، بأدوات حادّة كالشفرة. نقشّرها عن الوجوه الصابرة، والأجساد الكليلة تمضي قُدمًا. نرواغ. نختلق كمشة فرح.

المازوخيّة كلمة أيضًا. نستمتع بعذاباتنا المصفوفة بأناقة متفجّرة. والساديّة، كلمة أخرى. فنجلد أنفسنا لذنبها في ارتكاب نجاتنا! كلماتنا السوريّة مبتكرة، لم تسبقنا إليها أيّ كلمات، لا كلمات سارتر أو بريفير!

صديقتي المجنونة في دورانها الدهليزي، تطير في الفضاء/ تلحق بأبيها يقود سيّارته البيضاء الطائرة*. لم تطر السيّارة لغلاء الوقود أو لفقدانه. أخبرتنا حكاية صديقتي أنّ الحرب طيّرتها. ألحق بها، ننتظر أباها. سيعود! لن يعود! سيعود! لن يعود!... إلى أن كففنا عن انتزاع بتلات الأزهار!

تدوّخني رائحة بصل عفن. وصديقتي المجنونة لا تني تدور، تحكي لأطفال الحرب اليتامى، حكايات ما قبل النوم، وتعدهم بأنّ أباها سيأخذهم في نزهة فرح بعيدًا، حالما تتوقّف سيّارته عن الطيران. آن استيقاظهم. يُهرع الأطفال، إلى النوافذ المشرعة، يلوّحون بأذرعهم النحيلة للسيارة البيضاء الطائرة لتهبط إليهم! أمّا أنا، فلا أرى أيّ أثر لها بعد! في المساء، لم تعد الكهرباء، فتلاحمت ساعات التقنين وتتالت العتمة! باكرًا، رقد الأطفال ذابلو الانتظار في الظلام.

فلتكن أحلامهم هانئة! انتصف الليل، رائحة بصل متعفّن تتمكّث حولي، تزكم كلمات مقالتي، تسدّ عليها أنفاسها.

أقلت: أحلام؟! فليكن. الحلم، كلمة سوريّة أيضًا. ولأعترف أنّني اقترفتها بعد سُباتها لاثنتي عشرة سنة. سنوات لا ميلاديّة هي ولا هجريّة. بل، اثنتا عشرة سنة سوريّة صرفة متفرّدة!

بلى، تجرّأت بكامل قيافة جهلي وتعبي، واقترفت حلمًا. وقتها كانت الأرض تهتزّ بي، توسّع من تصدّعاتي، فيفرّ من بين الشقوق حلم غبيّ. علّقت ذنبي هذا على شمّاعة جاهزة؛ إنّهم وحدهم السبب. أتهمهم أولئك أصحاب الأذرع السوريّة، وقد توحّدت بغتة، بعد تفسّخها المرعب لأكثر من عقد، التأمت لإنقاذ الضحايا من تحت ركام الزلزال المتساقط فوق ركام الحرب. آووهم، وأطعموهم من لحم جوعهم وعظام بردهم. نبشوا أملًا ما من بين أثقال الأرض المتفجّرة! أيّ حلم ساذج كان!

فتحت اللابتوب لأنضّد نصّي، حتّى اختفت أوراقي، لا بدّ أني نسيتها في البيت في عجلتي لأكسب ساعة من الكهرباء قبل عودة التقنين!

تشتدّ رائحة البصل المتعفّن. دنوت من صديقتي المجنونة في دهليزها المدوّخ. قهقهنا حدّ الدمع. قالت:" فلتحيا الأحلام!" قلت:" فلتحيا الحكاية الشاهدة!"

نتابع طوافنا، فتعود إلى عينيّ المهجوستيْن أذرعُ الأطفال الممتدّة صوب السيّارة البيضاء الطائرة المفترضة، تارة، وتارة أخرى، صوب أذرع تمتدّ نحوها تشيلها، من تحت الأنقاض، تحملها، تضمّها. أطفال يضحكون أو يبكون، وآخرون في ذهول، كأنّما لا يزالون منشدّين إلى حكايات صديقتي المجنونة في دهليزها الدورانيّ، ثمّ غفوا شديدًا، ونسَوا الاستيقاظ الصباحي، وصخب فرحهم يلوّحون للسيّارة الطائرة، يستحثّونها لتهبط إليهم!

في اليوم الرابع، انخفض شحن هاتفي الخليويّ إلى آخر درجاته. تصلني رسالة البطاقة الذكيّة، تخبرني باستلام(50) ليتر من المازوت، مخصّصاتي السنويّة للتدفئة، والشتاء إلى انقضاء! عليّ استلامها من المعتمد الموزّع الحنش. بأنفاس هاتفي الأخيرة، أتصل مرارًا على رقميِّ هذا المدعوّ الحنش. هاتفه خارج التغطية. أعاود الاتصال، إلى أن خرج جهازي عن التغطية، وخرجْتُ من تحت رحمة سيّدي وعطفه، السيّد الحنش.

السماء تمطر في الخارج، والبرد عاصفة تستبيحني في الداخل. لا كهرباء، لا إنترنت، لا الحنش. أيّ من الصلوات، أو من حكم أوشو ووصاياه المزدهرة تجاريًّا، لم تفلح في نيل أيّ طاقة كونيّة بديلة!

تباغتني صديقتي المجنونة بصيحة فرح، وما تزال تدور في دهليزها، بنفسٍ هذيانيّ تقول:"- شوفي! وأخيرًا، هي سيّارة أبي البيضاء! شوفي! إنّها عادته؛ في طريقه، ينقل معه، من تتقطع بهم سبل الذهاب والإياب. انظري! ثمّة نساء وأطفال. هي أختك رانيا الطبيبة ذاتها، رفقة بناتها الست، أرأيتها؟

صغيرتها المشاكسة في الخلف، تنكش لأبي شعر رأسه. تفرقع ضحكاتها. ألا تسمعينها؟ هاهم يلوّحون لنا! معهم أيضًا، ابنة حارتنا أمينة حويجة أم عهد وبناتها الثلاث! أتلبّثُ في جمودي. فمنذ أكثر من عقد، خطف زوّار الفجر أختي رانيا وبناتها، على هذه الضفّة من النزاع،  وعلى الضفّة الأخرى خطف الغربان أمينة حويجة وبناتها الثلاث! وابتلع الظلام أخبارهنّ! بغتة أخرى، تصرخ صديقتي، إنّما في هلع: "انتظري توقّف السيّارة، فبيتي تحرقه الآن المدفأة الكحوليّة!" تقصد بيتها المستأجر، كانت الحرب قد التهمت بيتها الأصليّ! غادرتني على عجل. بينما أحدّق ذاهلة إلى حيث أشارت، وما أزال أبحث عن السيّارة،  فلا أرى غير الطابور الطويل أمامي. بيدي البطاقة الذكيّة، أنتظر دوري البعيد، لأحصل على كيلو بصل وكيلو برغل لهذا الأسبوع. نضحّي بحصّتنا، لنقدّمها إلى أحدنا، هو تحت خطّ الضيق، هذه المرّة، فتستكين روح أمّي في رقادها الأبديّ. رحلت أمّي وأخذت معها غيمات وجوه أختنا وبناتها، كانت تشكّلها، على مدى تسع سنوات بانتظارعودتهنّ!

الشحاذة، أو تهذيبًا المؤازرة، كلمة سوريّة أيضًا. أتصل عبر الهاتف الأرضيّ بصديقتي في حيّ بعيد عنّي. أضبّ أجهزتي لأشحنها، وأسارع إليها.

المؤازرة، كلمة، ترعرت وسط زلازلنا وازدهرت بفخامة بعد الزلزال الأخير. فانبثقت لدينا، نحن السوريّون المُشَلَّحون المَشْلوحون، كلماتٌ جديدة:" ما إلنا غير بعض". لنتبادل الأدوار: المغيث والمستغيث، الأذرع الهابطة والأخرى الصاعدة على خطّ الضيق وتحته!

نتبادل دفئًا أسطوريًّا، بلا مازوت أو كهرباء أو حطب. وبابتسامات مكينة دافئة، نقرأ الأشعار في صقيع جحيمنا. نجترح لبعضها إضافاتنا، كمثل ما أضفناه مرّة لـ"الآن هنا"، للشاعر الألماني فيرنر شبرنغر:" قف بقدمين ثابتتيّن في أنّك/ في الآن/ الذي هو الفردوس الأوحد لك/ لا تجعل منه جحيمًا بهموم الغد./ شبرنغر يتفلسف بعيدًا عن زلازلنا السوريّة، فنضيف إليه ضاحكين:" فردوسنا الأوحد مقيم فينا وحدنا، نحن الذين، "ما إلنا غير بعض."، لنا لقمتنا كالحة، وشعلة حناننا نور."

أنهيت صفّ الكلمات على بياض الصفحات الورقيّة، ريثما يُشحن اللاب توب. وما إن فتحته لأنضّد نصّي، حتّى اختفت أوراقي. لا بدّ، نسيتها في البيت في عجلتي، لأكسب ساعة كاملة من الكهرباء عندها، قبل عودة التقنين.

أخبط بغضبي على الطاولة! "هيييه! فليكن!" صرخت بي صديقتي الحكّاءة المجنونة في دهليزها، تقف قرب حرائق بيتها، قالت:" لا تزعلي! ما عاد ثمّة ما يُقال بكلمات سوريّة! ألديك رقم هاتف صاحب صهريج ماء؟ من أعرفه لا يردّ على اتصالي. نفد الخّزان والماء مقطوعة!"

 

* إشارة إلى أن قصّة "سيّارة بيضاء كالثلج" للكاتبة السوريّة فدوى العبّود.

رغم أنّها ما زالت هنا!

 سأفتح الكمبيوتر لكتابة حكاية إنقاذ روح أمي لي ممّا يرعبنا في سوريا. ربع ساعة وتعود الكهرباء مدّة ستّين..

رباب هلال
لجينة الأصيل: الطفلة التي قرّرت ألّا تكبر

كانت لُجينة الأصيل ترى أنّ على المختصّ في مجال الأدب والفنّ الطفليّين أن يحرص على استبقاء الطفولة في..

رباب هلال
نصف كأسنا الملآن

وصف لي طبيبي النفسيّ Zolosyr 100 عياره أثقل ممّا أتناوله عادة. هذا الدواء الذي يتناوله أغلبنا، هو الآخر..

رباب هلال

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة