رغم أنّها ما زالت هنا!

 سأفتح الكمبيوتر لكتابة حكاية إنقاذ روح أمي لي ممّا يرعبنا في سوريا. ربع ساعة وتعود الكهرباء مدّة ستّين دقيقة، لنغور مجدّدًا في غياهبنا لخمس ساعات متواصلة.

ما الذي بقي للسوريّ أن يقول أو يكتب بحثًا عن ذُبالة أمل؟

"كِشْ بَرّا وِبْعيدْ"، ينهرني صوت روح أمّي في سريرها الأبديّ. هناك تحت أشجار السنديان الواقفات في الزمن. يردّد الصوت: "كِشْ بَرّا وِبْعيدْ!"، عبارة تُقال في ضيعتنا عند التشاؤم في أمر ما، لم يُبتّ شأنُه الخطير بعد.

أؤمن بأنّ أرواح من رحلوا من أحبّتنا تعود في أوقاتنا العصيبة على وجه خاصّ. ليس في الأمر تَطيّرًا. فروح أمّي تكلّمني. حتّى أنها مرّة، خلّصتني من شرك مرعب!

إنّها حكاية تُحكى. رحلت أمّي حاملة حزنها وأملها بخلاص البلاد، لإيمانها الواثق بالله الجبّار خالق البلاد ومنقذها العظيم. مرّة، نظرتْ إليّ شَذرًا تُخرسني حين قلت: لكنّ سوريا، فيما يبدو، أفلتت من رحمة يده وقبضة حمايته! 

عليّ أن أهشّ التشاؤم والشرّ بعيدًا إذًا. سأفتح الكمبيوتر لكتابة حكاية إنقاذ روح أمي لي ممّا يرعبنا في سوريا. ربع ساعة وتعود الكهرباء مدّة ستّين دقيقة، لنغور مجدّدًا في غياهبنا لخمس ساعات متواصلة، كالعادة. 

الوقت ظهيرة يوم الجمعة. في جامع الحيّ، يتلو الشيخ خطبته العصماء. يعلّمنا معنى الصبر، ويدعونا لتحمّل المآسي، مستشهدًا بمواقف الصالحين وأقوالهم منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنًا.

حسنٌ، فلا زمان ينهي صلاحيّة المآثر والأخلاق الحميدة أو يسكّن نجاعتها. لكنّ شيخ الجامع بدا مولعًا بالتسكين. يقرأ خطبته بصوت خفيض تزعزعه ثقة بالنفس منعدمة، كما لو أنّه تلميذ كسول يُلقي في الصفّ موضوع التعبير الضعيف، سرقه من زميله. تبًّا لعلم النفس يحشر أنفه حتّى في خطب شيخ الجمعة المباركة!

انشغل فضولي باكتشاف تَمكّنه من قواعد النحو. ابن الذين! سكّن المفردات كلّها، وبأناة الخبير! تبعًا لنصيحة: "سكِّنْ، فتسلَمْ!".

يسلمُ الشيخ البارع في التسكين. وأفكّر بحال البطون المنتفخة لأهالي الحيّ من المتعلّمين، وهم يسمعون خطبة الشيخ، الغبيّ الغَبّاء. هل ذكرتُ أنّنا في سوريا نبدع في استغباء بعضنا بعضًا حدّ التحليق في فضاء فنتازيّ؟

يا للحرب، لا تني تكشف تميّزنا. أطمئنّ، فصوت روح أمّي لم ينهرني كعادته حين تحلو لي النميمة: "عيب عليكِ تقولي هيك، خبّي هالحكي ببطنك!".

 شاشة الكمبيوتر هي ملاذ هرائي، أدفن رأسي فيها مثل نعامة، فلا يبصرني شرّ التفكير بالخارج الخانق

أتراها الأرواح أدركت الحقيقة؟ ليتها تقولها لنا. آلام بطني تشتدّ، فخزّان الكلام المخبّأ فيه، رعبًا، قد طفح.

وبصفتي عملت في التدريس والتربية سابقًا، يقفز إلى ذهني ما أسرّته لي طفلة في المرحلة الابتدائيّة. كنتُ لاحظت توًّا انتفاخ بطنها قليلًا. حدّثتني عن إحدى المعلّمات، التي لا يفقهون من شرحها الدروس شيئًا، وعن العقاب يشرأبّ فوق رؤوسهم الصغيرة إن تجرّأ أحدهم على طلب التوضيح للفهم.

تشغلهم بعطورها وملابسها، بحقائبها وأحذيتها، الفاخرة الثمينة، وتحوّل المعدات الخاوية إلى عيون. وحالَ ورود شكاوى الأهالي منها، تتفاخر بسطوتها: "إي لتعرفو إنّي ما بخاف من حدا، وأكبر راس بهالبلد يطيعني!"، فتنتفخ البطون الصغيرة أكثر.

وما إن سمعتُ باسم معلّمتها "المدعومة كتير"، كما أنذرتني الطفلة المستغيثة، حتّى همس مغص بطني مُحتدًّا:" أما زالت هنا؟" يا للشياطين! 

منذ ما قبل الحرب بسنوات، هي هنا. يا لعارنا المستديم المستكين. بل، يا ليباس رأسي! فليقتنع بما يضخّه إعلامنا الوطنيّ النزيه: "بلادنا المنتصرة الحبيبة تعاني آثار الحرب، وعلينا أن نستوعب ونصمد، نتحمّل ونعمل".

ها قد شرّفتنا الكهرباء! فلأقتنص ساعة للكتابة!

أفتح الكمبيوتر. يباغتني حَرَنُ الشاشة السوداء. عبثًا أحاول فتحها. إنّه فيروس شرس.

هل تحفظين ملفّاتك في مكان آخر؟ لا. الكمبيوتر يحتاج إلى صيانة. لا أُطمئنك كثيرًا. سأبذل قصار جهدي والأنظمة التقنيّة، أكّد المهندس المعلوماتيّ.

ها أنا أفقد ثروتي كاملة! ماذا يعني أن يفقد كمبيوتري ذاكرته/ثروتي الوحيدة؟ لكنّها مجرّد ملفّات من لغو، وشطط أوهام. فهي، مثلًا، لم تردع القبيلة عن قتل ندى ابنتها اليافعة، وابنة حارتي. ولم توقف رغبة انتحار الشابّ الجامعي بعد نيله شهادة الماجستير، فأسقط نفسه عن سطح المبنى الجامعيّ. ولم تسعفني في محاولتي اختراق محميّة الخراب الضاربة حول المعلّمة سفّاحة طفولة البلاد. مجرّد كلام لغو، وخيال واجف عاجز، وذاكرة حنين باتت وخزًا مؤلمًا في خاصرة الروح.

 شاشة الكمبيوتر هي ملاذ هرائي. أدفن رأسي فيها مثل نعامة، فلا يبصرني شرّ التفكير بالخارج الخانق، أو يكشّ توازني في شبه حياتنا هذه داخل البلاد.

البلاد المقسّمة فقدت ذاكرتها أيضًا. وذاكرة البيوت ضيّعها الدمار، والتعفيش والتشويل، والحنين الخانق لأصحابها؛ القتلى، والمعتقلين، والمخطوفين، والنازحين، والمهجّرين في فيافي الأرض. 

فلأتوقّف عن علك هذا الهراء واجتراره، فقد ينفجر خزّان بطني بما لا يحمد عقباه، ولأحْتمِ بواقية الـ "كش برّا وبعيد". أيتعافى كمبيوتري وذاكرته؟ أيتعافى إرثي؟

بانتظار خروج كمبيوتري من العناية المركّزة بسلام، أعود أمكث بين الواقفين. ألوذ بهم هنا في "عالم الزومبي"، بانتظار ما لم يتبقّ لدينا أبدًا لننتظره.

"إنّما ثمّة احتمال واحد باق يترجّح: ربّما أن تجتاحنا قطعان الزومبي وتأكلنا حتّى آخر أبله فينا، أو ربّما نتمكّن نحن من أكلهم. اللعنة! كم هو ميئوس من أمرنا إذًا!"*

يهرع صوت روح أمّي إليّ. ينفض عنّي خطبة الشيخ الغبيّ يستغبينا، وانتصار تلك المعلّمة المزمن المقيم. يردّد: "كش برّا وبعيد".

وقبل أن تغادرني، تطمئنّ إلى انتفاخ بطني يزداد، وإلى بقائي هنا قريبًا من مرقدها تحت أشجار السنديان الواقفات في الزمن. ترنو حانية إلى طابورنا الزومبيّ الممتدّ في الجهّات السوريّة قاطبة، يحيطني بالأمان والحنان، يهدّئ من ارتعاش الروح، ويغمرني بالمسرّة.  

 

* إشارة إلى قصّة الكاتب السوريّ زياد حسّون "بانتظار أن يأكلنا الزومبي".  

الكلمات... كلمات سوريّة!

المازوخيّة كلمة. نستمتع بعذاباتنا المصفوفة بأناقة متفجّرة. والساديّة، كلمة أخرى. فنجلد أنفسنا لذنبها في..

رباب هلال
لجينة الأصيل: الطفلة التي قرّرت ألّا تكبر

كانت لُجينة الأصيل ترى أنّ على المختصّ في مجال الأدب والفنّ الطفليّين أن يحرص على استبقاء الطفولة في..

رباب هلال
نصف كأسنا الملآن

وصف لي طبيبي النفسيّ Zolosyr 100 عياره أثقل ممّا أتناوله عادة. هذا الدواء الذي يتناوله أغلبنا، هو الآخر..

رباب هلال

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة