الهجرة من لبنان: هروب من مجهول إلى آخر؟

يخرج معظم المقيمين في لبنان منه قسرًا وهربًا من واقعه الاقتصاديّ الكارثيّ، وإن كانت نسبة منهم تسافر للدراسة أو لمّ الشمل العائليّ. وفقًا لمسح القوى العاملة، 88.5% من الشريحة المستطلعة أفادت بأن الوضع الاقتصاديّ هو سبب رغبتهم بالهجرة.

في لحظة واحدة من العام 2021، وبعد سنتين من الإحباط، خسر باسم (23 عامًا) 1500 دولار أميركيّ وثلاثة أشهر من الاكتئاب والانطواء في غرفة نوم، وكأنّه يسدّد ضريبة محاولة الهروب الأولى من الأزمة الاقتصاديّة والماليّة في لبنان. تضاعف يأسُ باسم واكتئابه حين عاد إلى واقع ظنّ أنّه تخلّص منه بعد أن لحقَ بوعدٍ كاذب بالهجرة إلى تركيا والعمل في مجال التصوير هناك.

تخرّجَ باسم من "الجامعة اللبنانيّة الدوليّة" في بيروت بشهادة في "الراديو والتلفزيون"، ليجد نفسه عاطلًا عن العمل، في وقت اشتدّت به الأزمة الاقتصاديّة في لبنان وتفشّت جائحة "كورونا". يتحدّث باسم لـ"أوان" عن إحباطه ويأسه خلال الأشهر الستّة الأولى دون عمل، وعن "الخلاص" الذي لمسه حين تواصل معه شخصٌ مقيم في تركيا (وصله به أحد الأصدقاء) وعرض عليه فرصة عمل كمصوّر للسوّاح الأجانب في الرحلات السياحيّة هناك، وأكّد له أنّه يمتلك وكالة سفر وعقارات، وبإمكانه تأمين سكن وإقامة بسهولة، بشرط أن يُحضر معه مبلغ 1500$.

لم يكن باسم يعلم أنّ معاناته الحقيقيّة كانت قد بدأت للتوّ: "كان المبلغ المطلوب كبيرًا بالنسبة لي ولأسرتي التي لا تتقاضى أيّ دخل بالدولار. تمكّن والداي بعد إصرارٍ منّي وجهد منهما من تأمين المبلغ، فاستلمته وسافرت إلى اسطنبول حيث كانت تنتظرني المفاجأة التي لم أحسب لها حسابًا".

برغم الضريبة التي سدّدها باسم، لم يتخلّ عن الرغبة في الهجرة من لبنان، الرغبة التي يشاركه بها أكثر من نصف المقيمين فيه بعمر15 سنة وما فوق بحسب مسح القوى العاملة في لبنان لعام 2022 الذي أجرته "إدارة الإحصاء المركزيّ" و"منظّمة العمل الدوليّة". وتعود هذه الرغبة إلى دوافع عديدة أبرزها العمل، خصوصًا مع ارتفاع معدّل البطالة في لبنان من 11.4% في فترة 2018-2019 إلى 29.6% في كانون الثاني/يناير 2022 بحسب المصدر نفسه.

بقيَ باسم في اسطنبول 17 يومًا، وخلالها كان الشخص الذي استقدمه يصرفُ من أمواله بحجّة تسوية وضعه القانونيّ وتأمين السكن له. سرعان ما اكتشف باسم أنّ فرصة العمل غير موجودة وأنّه وقع ضحيّة احتيال، هو وشخص آخر على الأقلّ، شابّ من العراق تعرّف إليه في تركيا.

يقول باسم: "القانون لا يحمي المغفّلين. فحملت أغراضي وعدت إلى لبنان بعد أسوأ تجربة مررتُ بها، وبقيت بعدها أكثر من ثلاثة أشهر في غرفتي لا أقابل أحدًا، وأعاني من الاكتئاب والشعور بالذنب لأنّني كّلفت أهلي هذا المبلغ الكبير في الأزمة...على الفاضي".

تُعدّ فئة الشباب (15-24 سنة)، التي ينتمي إليها باسم من أكثر الفئات رغبةً بالهجرة من مجموع القوى العاملة في لبنان (29.4%) ومعظمهم من تلاميذ المدارس والجامعات، الذين بات معظمهم ينظر إلى الشهادة الجامعيّة بوصفها وثيقة سفر تسهّل رحيلهم إلى الخارج. أمّا فئة الكبار (25-44) فتتصدّر نسبتها الفئات الراغبة في الهجرة، والتي بلغت 42.2% بحسب المسح المذكور آنفًا.

يعمل باسم اليوم في لبنان كمصوّر مستقلّ. يقول إنّه يستطيع تأمين مصروف جيبه في هذه الظروف الصعبة: "ماشي الحال، بعدنا أحسن من غيرنا". ولكنّه ما زال يبحث حتّى الآن عن فرص عمل في الخارج، بشرط أن تكون مضمونة النتائج.

شهدت هذه المنطقة الجغرافيّة موجات هجرة سبقت تشكّل لبنان ككيان سياسيّ، كان أبرزها في عهد متصرفيّة جبل لبنان في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وقد ارتبط ذلك بتدهور إنتاج شرانق الحرير الذي اعتمد اقتصاد المنطقة عليه، ثمّ تلت ذلك موجة أخرى أثناء الحرب الأهلية (1975-1990). ولم يوقف انتهاء الحرب النزيف السكّاني والهجرة من لبنان. ومع اشتداد الأزمة الاقتصاديّة، عاد موضوع الهجرة إلى الواجهة بشكل كبير حتّى أنّ وزارة العمل اللبنانيّة ـــ للمفارقة ـــ أطلقت منصّة إلكترونيّة "لتوفير فرص العمل في السوق القطريّة".

بحسب تقديرات إدارة الشؤون الاقتصاديّة والاجتماعيّة في الأمم المتّحدة ـــ شعبة السكان (2022)، فإنّه من المتوقّع أن يكون معدّل الهجرة الصافي في لبنان (الفرق بين عدد الوافدين أي الأشخاص القادمين إلى مكان ما، وعدد المهاجرين أي الأشخاص الخارجين منه خلال السنة) في العام 2023 ما يساوي 177331ـــ وهو رقمٌ يؤشّر إلى أنّ لبنان بات بلدًا غير صالح للعيش فيه بالنسبة إلى العديد من الأفراد المقيمين فيه.

تجدّدت رحلة الهجرة عند وسام (52 عامًا) بعد أن كان قد جرّبها في العام 1992. حينذاك، فقدَ وسام الأمل في أن يجد فرصة عمل وظروف حياة لائقة في لبنان، فوجد فرصة هجرة عمل إلى الإمارات ليعمل طبّاخا في مطعم حتّى العام 2003، حيث استُغني عنه وعاد إلى لبنان ليعمل في المجال نفسه ولكن بأجرٍ أقلّ. هكذا يرى وسام رحلة العمل في الخارج: "ما في أمان برّا، بيعرفوا وضعك ووضع بلدك فبتسكت... ما في ضمانة برّا". ازدادت الأعباء على وسام بعد أن تزوّج وأصبح أبًا لثلاثة أولاد، ووصلت إلى ذروتها بعد العام 2019 حيث لم يعد يكفي ما يتقاضاه من عمله لتغطية نفقات تعليم أولاده. وجد فرصة في قطر خلال كأس العالم 2022، ولكنّها كانت لثلاثة أشهر فقط عادَ بعدها إلى لبنان.

قد يكون العيشُ بعيدًا عن الأسرة والوحدة بعض الهموم التي يثقل تحمّلها عند المهاجرين، فيسعى عددٌ كبيرٌ منهم لإلحاق عائلاتهم معهم، ولكن الظروف الماديّة قد لا تسمح في معظم الأحيان. يبيّن مسح القوى العاملة في لبنان للعام 2022 الذي أجرته "إدارة الإحصاء المركزي" و"منظمة العمل الدّوليّة" أنّ 62.4% من المقيمين في لبنان (في عمر 15 سنة وما فوق) الذين باشروا بإجراءات الهجرة قد باشروها مع جميع أفراد أسرتهم.

 يسعى وسام للحصول على فرصة عمل في ساحل العاج حاليّا ويؤرقه هاجس فراق أسرته، خصوصًا بعد تقدّمه في العمر، ولكنّ الراتب لا يكفي لحياة أسرة في أفريقيا. يقول عن ذلك بحسرة: "عم بنجبر والغصّة بقلبي، أحلى لحظات تعيشها مع عيلتك وولادك هنّي وأطفال... أنا عم سافر حتّى يعيشوا ويقدروا ياكلوا ويشربوا ولو كنت مش موجود". يحضّر وسام نفسه للسفر ولكنّه يحلمُ دائمًا برأسمال صغير ليشتري "فان" ويحوّله إلى استراحة طعام في صيدا. 

يخرج معظم المقيمين في لبنان منه قسرًا وهربًا من واقعه الاقتصاديّ الكارثيّ، وإن كانت نسبة منهم تسافر للدراسة أو لمّ الشمل العائليّ. وفقًا للمسح المذكور، 88.5% من الشريحة المستطلعة أفادت بأن الوضع الاقتصاديّ الحاليّ في لبنان هو سبب رغبتهم بالهجرة.

لم تكن تلك رغبة علي (33 عامًا) قبل 2019. اضطرّ سابقا للعمل في قسم المبيعات في أحد متاجر المفروشات في العاصمة بيروت بعد تخرّجه بشهادة في العلوم السّياسيّة من الجامعة اللبنانيّة. برغم ذلك، لم يكن يفكّر بالهجرة والابتعاد عن عائلته وأصدقائه. يقول علي لـ"أوان": "قبل الأزمة كان (ماشي الحال). لم يكن راتبي كافيًا لإعالة عائلتي أو للزواج أو العيش في بيت منفرد، ولكنّه كان يكفي حاجاتي الأساسيّة. في العام 2020، بدأت رواتبنا بالتقلّص حتّى باتت تساوي مصاريف التنقّل فقط".

لم يتمكّن من التكيّف مع هذا الواقع، فترك عمله الذي زاوله تسع سنوات، وبدأ بالبحث عن عملٍ في الخارج، حتّى انتهى به الأمر أمينًا لأحد المستودعات التي يملكها أقاربه في دولة غانا الأفريقيّة. وبرغم الظروف الصعبة التي يعمل بها، والرّاتب المتواضع الذي يتقاضاه، وبُعده عن والديه وشقيقه وشقيقته، وعن بلده منذ لحظة سفره في العام 2020، إلّا أنّه يجد أنّ هذا الوضع أفضل من البقاء في لبنان. يعملُ والد علي سائقًا خاصًّا لإحدى العائلات، وشقيقه نادلٌ في أحد المطاعم وراتباهما بالكاد يكفيان لدفع إيجار المنزل وفاتورة اشتراك مولّد الكهرباء. يقول: "إذا لم يكن أحد أفراد العائلة في الخارج، أو يتقاضى راتبًا بالدّولار الأميركيّ، فمن المستحيل تأمين نفقات المعيشة في لبنان".

لا يريد علي لأخيه الأصغر أن يبقى في لبنان وهو يسعى لتأمين عملٍ له في غانا أو في أيّ بلد أفريقيّ آخر. يقول إنّ البقاء في لبنان هو إضاعة للوقت ولن يعودَ إليه إلّا لزيارة عائليّة فقط. ويختم: "صحيح إنّي مش عم طلّع ملايين هون، ومش قادر إتزوّج ولا إشتري بيت، ولكنّي أُرسل لعائلتي 400$ شهريًّا، تعادل 40 مليون ليرة اليوم، يعني إذا اشتغلت رئيس جمهورية بلبنان ما بقبضن".  

 

* أُنجز هذا التقرير بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

لبنان: عينُ الرقابة على المحامين

أصبح قرار منع المحامين من الظهور إعلاميًّا دون أخذ إذن النقيب موضوعَ رأي عام عن قمع الحرّيّات في لبنان،..

ماهر الخشن
إعادة توطين السوريّين في ألمانيا: رحلة لجوء و"اندماج" عابرة للدول

"بس تطلع بالطيّارة، ما عاد حدا بيعرف عنّك شي"؛ هذا تعبير غازي عن بداية رحلة لجوئه وحيدًا من لبنان إلى..

ماهر الخشن
الرعاية الصحيّة لكبار السنّ في لبنان: العجز في النظام لا في العمر

همّ التأمين الصحّيّ يكون مضاعفًا لدى فئة كبار السّنّ، ليس فقط لحرج أوضاعهم الصحيّة، إنّما لأنّ الجزء..

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة