التعليم الرسمي في لبنان: عن كفاح أساتذة وطلبة

دفع اشتداد الأزمة على صعيد تأمين الحاجات الحياتيّة الأساسيّة عائلات كثيرة إلى إيقاف تعلّم أبنائهم، وأحيانًا إلى وضعهم في سوق العمل. لكنّ هذا غيض من فيض أزمة التعليم الرسمي في لبنان.

قرّر أحد أساتذة التعليم الثانويّ الرسميّ في لبنان ـــ مُرغمًا ـــ أن يعدّل علاج مرضه المزمن: حبّة دواء كلّ يومين، لا كلّ يوم. اضطرت سوسن، أمّ لثلاثة أبناء، أن تخفّف ميزانيّة التعليم حتّى تظلّ قادرة على تأمين احتياجاتهم الأساسيّة من طعام وطبابة. "إيدي على قلبي، ما بعرف شو بدّو يصير معن"، هو تعبيرها عن خوفها من مستقبلهم الدراسيّ. استدان بعض الأساتذة ليتمكّنوا من شراء "البنزين" ليصلوا إلى مدارسهم، و"تلات سنوات نحنا عم ندفع على وظيفتنا" هو ما توصّف به إكرام، أستاذة تعليم ثانويّ في عكّار، حال التعليم اليوم الذي ترى مستقبله "سوداويّا". كلّ ذلك هو نبذة بسيطة عمّا يحصل في قطاع التعليم في لبنان منذ بداية الأزمة الاقتصاديّة والماليّة.

"تغيّرت كتير الدنيا"، هكذا ترى سوسن الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي خسّرت زوجها، منذ أربع سنوات، كثيرًا من عمله في "الموبيليا" حتّى اضطرا، وبشكل بديهيّ، إلى نقل أبنائهما الثلاثة من مدرسة خاصّة إلى مدرسة رسميّة مجاورة لمنزلهما في برج البراجنة في الضاحية الجنوبيّة لبيروت. تقول سوسن لـ"أوان" إنّ المدرسة الرسميّة كانت حلّا لها: "بتفرج على الناس كلّها". وساعد هذا القرار على تخفيض أجور النقل مع ارتفاع الأسعار والغلاء، فكانت المدرسة مجاورة لمنزل سوسن. تتحدّث سوسن عن غلاء أقساط المدرسة الخاصّة وتكاليف وسائل النقل إليها، حتّى أنّ طلب إفادة لأحد أبنائها لم يكن مجانيّا فيها. 

 

قبل المدرسة الرسميّة، لجأت سوسن إلى تسجيل أبنائها في مدرسة خاصّة شبه مجانيّة. لكن أزمة عمل زوجها حالت أيضًا دون استمرار التسجيل فيها. تؤكّد سوسن أنّ تنقّل أبنائها بين المدارس لم يكن أمرًا سهلًا، ولكنّها تقول إنّها لمست أنّ المدرسة الرسميّة أفضل من المدرسة الخاصّة السابقة؛ "بيعطوا الولد حقّه، وما بهمّن المصاري"، ربّما كمواساة في ظلّ الظروف التي أحاطت بذلك.

قرار سوسن بشأن نقل أبنائها من التعليم الخاصّ إلى التعليم الرسميّ هو واحد من آلاف القرارات التي اتّخذتها العائلات التي تعرّضت لضائقة مادّيّة إثر الأزمة الاقتصاديّة في لبنان. فأشار تقرير نشره "المجلس النرويجيّ للاجئين" في لبنان في العام 2021 بعنوان "لبنان: التعليم أمام نقطّة تحوّل" إلى أنّ 54 ألف طالب انتقلوا من المدارس الخاصّة إلى المدارس الرسميّة خلال العام الدراسيّ 2020 ـــ 2021 لعدم قدرة أهاليهم على تحمّل أقساط تلك المدارس. وبحسب تقرير لـ"اليونسيف" (منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة) في آب/أغسطس من العام 2022، فإنّ 38% من العائلات في لبنان خفّضت مصروفها على التعليم مقارنة بـ26% في نيسان/أبريل من العام 2021، وذلك "لصالح شراء أساسيّات مثل الطعام والدواء".

ولكنّ الأخطر هو أنّ اشتداد الأزمة على صعيد تأمين الحاجات الحياتيّة الأساسيّة دفع عائلات كثيرة إلى إيقاف تعلّم أبنائهم، وأحيانًا إلى وضعهم في سوق العمل. يذكر تقرير "خطّة الاستجابة للطوارىء 2021-2022" الذي أجراه مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانيّة أنّ 400 ألف طالب تركوا المدارس في لبنان بسبب الفقر وظروف أخرى. ويقدّر تقرير "المجلس النرويجيّ للاجئين" المذكور سابقا أنّ 45% تقريبًا من الطلّاب الذين يتركون المدارس هم من خلفيّات اجتماعيّة واقتصاديّة صعبة. ومن الطبيعيّ أن تكون هذه النسبة قد ارتفعت مع تفاقم الأزمة الماليّة منذ العام 2021 (تاريخ التقرير).   

 
تعيد إكرام، أستاذة ومنسّقة اللغة العربيّة في ثانوية حلبا الرسميّة في عكّار، أزمة التعليم إلى سنوات سابقة للأزمة الاقتصاديّة، وفق تصريحها لـ"أوان". تشير إلى أنّ الأزمة تجلّت خلال فترة انتشار "كورونا" في العام 2020 حيثُ فرض التعليم عن بعد أو "أونلاين" في ظلّ غياب بنية تحتيّة لهذا النوع من التعليم (من شبكة إنترنت، وحواسيب لدى الطلّاب، أو خبرة مسبقة لدى طاقم التعليم) خصوصًا أنّ معظم طلّاب المدارس الرسميّة في لبنان هم من طبقات فقيرة أو غير ميسورة. وبعد ذلك، وخلال أيّام المظاهرات التي بدأت في 17 تشرين الأوّل 2019، حصلت إضرابات عديدة. 

تبع ذلك وبشكل متسارع الأزمة الاقتصاديّة، بحيث انخفضت قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركيّ، فارتفعت الأسعار وانخفضت قيمة أجور الموظّفين وتحديدًا موظّفي الدولة والتعليم الرسميّ الذي يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانيّة. تقول إكرام إنّ متوسّط راتب الأساتذة في قطاع التعليم الثانوي كان يقارب 2000 دولار قبل تجلّي الأزمة. أمّا اليوم، فأصبحت ثلاثة رواتب لا تساوي مبلغ 300 دولار (علمًا بأنّ انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة ما زال مستمرّا). أكثر من ثمانين ألف أستاذ وإداريّ في لبنان (العدد بحسب "النشرة الإحصائيّة لمركز البحوث التربويّة" للعام الدراسيّ 2021 ـــ 2022) انخفضت قيمة رواتبهم خلال العامين المذكورين 90% بحسب "اليونسيف".

تذكر أستاذة اللغة العربيّة أنّ الأساتذة كانوا يدفعون من جيوبهم حتّى يستطيعوا القدوم إلى المدرسة لمتابعة التدريس، ولكنّ الأزمة المتفاقمة وارتفاع تكاليف الاستشفاء والدواء أثقلت العبء على الأساتذة، خصوصًا بعد توقّف تعاونيّة موظّفي الدولة والصندوق الوطنيّ للضمان الاجتماعيّ عن تغطية تكاليف الاستشفاء والطبابة للأساتذة. فوالد إكرام، مثلَا، وهو أستاذ ثانويّ متقاعد بعد خدمة 44 عامًا في التعليم الرسميّ، دخل إلى المستشفى إثر حالة صحّيّة وطُلبَ منه 1700 دولار أميركيّ، لم تعد تغطّي تعاونيّة موظّفي الدولة منها شيئًا، فاضطرّت إكرام وإخوتها وأخواتها إلى تأمين المبلغ المذكور حتّى يتلقّى الاستشفاء المناسب. 

بعد كلّ ذلك، تُوّجت إضرابات متكرّرة للأساتذة في التعليم الرسميّ، تحديدًا خلال السنوات الماضية، بإضراب طويل أُعلن في بداية العام الحاليّ 2023. "أضرب الأساتذة عندما أصبحوا عاجزين" بحسب إكرام التي أكّدت أنّ الأساتذة لا يستطيعون متابعة عملهم دون أجر يؤمّن حياة كريمة. وأوضحت أنّ وضع الأساتذة في لبنان كان مجحفًا منذ وقت طويل، مستعيدة إضرابات الأساتذة الطويلة في العامين 2013 و2014. 

غالبًا ما تُحمّل الجهات الرسميّة في قطاع التربية والتعليم مشكلة التعليم الرسميّ في لبنان للأساتذة حينما يضربون للمطالبة بحقوقهم المادّيّة، فيصبحون معرقلي العام الدراسيّ والشهادات الرسميّة للطلّاب. تقول إكرام إنّه من البديهيّ أن يريد الطلّاب متابعة تعليمهم، ولكنّ "الفكرة أبعد من ذلك والمشكلة أعمق لا تتوقّف عند الأحداث الأخيرة في قطاع التعليم". بالنسبة إليها، التعلّم الأساسيّ حاليًا هو أن يتعلّم الطلّاب تحصيل حقوقهم التي "لا تُعطى ببساطة"، وأن يعرفوا أنّ مطالب الأساتذة محقّة وهي لمصلحة قطاع التعليم. وتؤكّد أنّ إصرار الوزارة على إجراء الامتحانات الرسميّة هو كرمى لعيون المدارس الخاصّة، ولكن "إعطاء الطلّاب إفادات حتّى يتمكّنوا من الدخول إلى الجامعات هو أشرف من أن يحملوا شهادة لا معنى لها في ظلّ كلّ ما يحصل في قطاع التعليم". وعن فكرة الإلحاح على التعليم في هذه الظروف، تتساءل إكرام إن كان الهمّ هو الإكثار من حاملي الشهادات العاطلين عن العمل أو هو تعليم طلّاب ليكونوا فاعلين في المجالات التي يختارونها. 

 

تعلّم النازحين السوريّين 

برغم حوادث الغرق والموت التي تصيب المهاجرين في البحر على متن مراكب "غير شرعيّة"، قررّت "أمّ حمدان" أن توقف تعليم ابنها الأكبر (13 عامًا)  في المدرسة الرسميّة في إحدى قرى البقاع الأوسط في العام 2022 وأن ترسله رفقة عمّه في رحلة غير مضمونة إلى أوروبّا بغية العمل وهربا من الأزمة الاقتصاديّة واللجوء في لبنان. ليست الحادثة الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فتوقّف الطلّاب عن التعليم يزداد بشكل كبير. وكان قد أظهر "تقييم جوانب الضعف لدى اللاجئين السوريّين في لبنان" للعام 2021 الذي أعدّته منظّمة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أنّ 22% من العائلات السوريّة في لبنان أرسلت أبناءها للعمل و35% أوقفت أولادها عن التعليم، وأنّ 80% من النساء والفتيات السوريّات في لبنان وأعمارهنّ بين 15 و24 عامًا لا يتبعن أيّ نوع من التعلّم أو العمل أو التدريب.

نتيجة للظروف الصعبة للنازحين السوريّين في لبنان والتي تفاقمت مع الأزمة الحاليّة، يصبح التعليم عبئًا ثقيلًا على العائلات. بدعم من هيئات الأمم المتّحدة و"اليونسيف"، فُتح منذ سنوات دوام تعليم بعد الظهر في المدارس الرسميّة مخصّص لتعليم الطلّاب السوريّين. تهدّد الأزمة المستقبل الدراسيّ لـ34550 طالبًا سوريّا (في العام 2021-2022 بحسب المركز التربويّ للبحوث والإنماء) في التعليم الرسميّ في لبنان موزّعين بين الدوام الرسميّ ودوام بعد الظهر. وما فعّل هذا التهديد هو قرار لوزارة التربية والتعليم ـــ ردًّا على إضراب الأساتذة المتعاقدين ـــ لا يخلو من العنصريّة، بحيث أعلنت الوزارة "وقف الدروس بعد الظهر في المدارس الرسميّة لغير اللبنانيّين عملًا بمبدأ المساواة". وكان تبرير ذلك: "نحن نستقبل جميع الناس وقلوبنا مفتوحة للجميع، لكن لا يجوز ألا يتعلّم أبناؤنا وأن يتعلّم أولاد غيرنا". وكذلك، ذكر مركز البحوث والإنماء في النشرة الإحصائيّة للعام 2021 ـــ 2022 وجود عشرات الآلاف من الطلّاب السوريّين النازحين ضمن الكلام عن مشاكل قطاع التعليم خلال الأزمة الحاليّة.

 كانت المدرسة الرسميّة حلًا للوضع الماديّ الذي فرض نفسه على عائلة سوسن والتي تتحسّرأنّها لم تستطع تأسيس أبنائها مثل ما كنت تحلم قبل الأزمة. ويبقى مستقبل أبنائها مثل طلّاب المدارس عمومًا في لبنان: "إيدي على قلبي، ما بعرف شو بدو يصير بالمدارس الرسميّة. ما بقدر سجّل بمدارس خاصّة". وتقول أستاذة التعليم الثانويّ إنّ مستقبل الأساتذة والتعليم الرسميّ في لبنان هو "سوداويّ" في حال استمرّت السياسة "المقصودة أو غير المقصودة" في تدمير التعليم الرسميّ تحديدًا عبر خصخصته. وتتحدّث عن سياسة تدمير واضحة لقطاع التعليم الرسميّ "وكأنّه مفروض يتحوّل القطاع نحو الخصخصة إمّا بسبب صندوق النقد الدوليّ أو كرمى للقطاع الخاصّ المملوك من قبل السياسيّين". في الوقت ذاته، يكون الطلّاب عرضة للتوقّف عن التعليم والاضطرار إلى العمل، فمثلًا 9% من العائلات التي تعيش في لبنان أرسلت أولادها إلى العمل في العام 2021، وما يقارب 13% من العائلات طلبت من أطفالها العمل كطريقة للتأقلّم في العام 2022، وأنّ لأطفال ذوي الإعاقات والفتيات هم أكثر الفئات عرضة إلى عدم العودة إلى المدارس. 

أمام كلّ هذه الوقائع والتخوّفات، وأمام استمرار السقوط الحرّ لقيمة الليرة اللبنانيّة بما ينعكس على كلّ القطاعات في لبنان، وتحديدًا رواتب الموظّفين في القطاع الرسميّ، يصبح مستقبل التعليم في لبنان على المحكّ، ليس فقط على مستوى توقّف العام الدراسيّ الحاليّ أو القادم، إنّما على مستوى تقلّص التعليم الرسميّ على وجه الخصوص بما يحمل ذلك من انعكاسات سلبيّة على المستقبل وإن قُلّصت الأزمة الاقتصاديّة والماليّة. 

 

* أُنجز هذا التحقيق بدعم من "صندوق الأمم المتحدة للديمقراطية” UNDEF ومنظمة “صحافيون من أجل حقوق الإنسان" Journalists for Human Rights.

الهجرة من لبنان: هروب من مجهول إلى آخر؟

يخرج معظم المقيمين في لبنان منه قسرًا وهربًا من واقعه الاقتصاديّ الكارثيّ، وإن كانت نسبة منهم تسافر..

ماهر الخشن
الرعاية الصحيّة لكبار السنّ في لبنان: العجز في النظام لا في العمر

همّ التأمين الصحّيّ يكون مضاعفًا لدى فئة كبار السّنّ، ليس فقط لحرج أوضاعهم الصحيّة، إنّما لأنّ الجزء..

ماهر الخشن
لبنان: عينُ الرقابة على المحامين

أصبح قرار منع المحامين من الظهور إعلاميًّا دون أخذ إذن النقيب موضوعَ رأي عام عن قمع الحرّيّات في لبنان،..

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة