تفرض عودة العلاقات السعودية مع سوريا نفسَها كحدث مهمّ في المنطقة، بل إن البعض يعدّها محطة تاريخية و"إيذانًا بنهاية الحرب السورية"، خصوصًا أنها جاءت بُعيد اتفاق سعودي - إيراني برعاية صينية في آذار/مارس الماضي. فهل نحن فعلًا أمام أحداث مفصلية ومصالحات مستدامة؟
نظرة إلى التاريخ القريب
يذهب البعض إلى القول إنّ الأحداث التي تعيشها سوريا منذ آذار/مارس 2011 إنما هي نسخة موسّعة لأحداث وقعت أواخر السبعينيات، وامتدت تبعاتها إلى مطلع تسعينيات القرن الماضي (اصطُلح على تسميتها اختصارًا "أحداث الثمانينيات")، والمقصود هنا المواجهات الدامية بين السلطة وجماعة "الإخوان المسلمين" المدعومة من قوى إقليمية على رأسها العراق.
وبرغم أن نسخة القرن الماضي كانت أخفّ وطأة مما تشهده البلاد منذ اثني عشر عامًا، فإن الكثير من الأحداث والظروف ـــ الداخلية والخارجية ـــ تتشابه بين النسختين، خصوصًا لجهة العلاقة المتوترة بين سوريا ومحيطها العربي. وأسباب التوتر في الثمانينيات كانت عديدة، أهمها التحالف السوري – الإيراني، ودعم دمشق لطهران في حربها مع العراق، والموقف السوري في الحرب الأهلية اللبنانية وما تخلّلها من اجتياح إسرائيلي ومحاولات تثبيت اتفاقية بين بيروت وتل أبيب، فضلًا عن الخلاف بين دمشق وقيادة "منظمة التحرير الفلسطينية"، والعلاقة المتوترة (تاريخيًا) بينها وبين أنقرة.
حينذاك، اتهمت دمشق دول الجوار (تركيا والعراق والأردن) بفتح حدودها لتقديم الدعم لـ"الإخوان"، في الوقت الذي كانت فيه العلاقة بين دمشق والقاهرة مقطوعة منذ سلوك الأخيرة مسار "كامب ديفيد". أما دوليًا، فتوازيًا مع تمتين دمشق علاقاتها مع الاتحاد السوفياتي إثر توقيع "معاهدة الصداقة" (عام 1980)، كانت دمشق تعاني من أزمة اقتصادية خانقة نجمت عما يشبه الحصار الغربي لها، والذي عُرف بـ"حصار الثمانينيات".
كلّ هذا فيما توتر العلاقات بين إيران ودول الخليج تدرّج من اتهامات طهران للرياض (على نحو خاص) بدعم بغداد في الحرب الإيرانية ـــ العراقية، واتهام الرياض طهران في المقابل بالعمل على زعزعة استقرار دول الخليج والوقوف خلف المحاولة الانقلابية في البحرين عام 1981 بقيادة "الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين"، وصولًا إلى "أحداث مكة" (1987) التي نجمت عن صدامات دامية أثناء موسم الحج، وقع إثرها مئات الضحايا من الحجاج الإيرانيين فضلًا عن عناصر أمن سعوديين، لتُقطع بعدها العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران.
هل تعوّل الرياض على عودة السوريين الموجودين على أراضيها والأراضي الأردنية واللبنانية ليكونوا نواة حاضنة شعبية لدورها المنتظر؟
وفيما بدا الشرق الأوسط على فوهة بركان، بدأ مسلسل تحوّل دولي مع انهيار جدار برلين في ألمانيا، ثم إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف انتهاء الحرب الباردة في قمة مالطا 1989، لتَلي ذلك أحداث إقليميّة أبرزها غزو العراق للكويت عام 1990 (قُبيل انهيار الاتحاد السوفييتي)، قبل أن تشهد المنطقة انطلاق مسار "التسويات"، بدءًا بحلحلة الملف اللبناني بتوافق سعودي - سوري ومباركة أميركية، مرورًا بـ"مؤتمر مدريد للسلام" (1991)، الذي ترافق مع رفع العزلة الدولية عن سوريا إثر مشاركتها في "التحالف الدولي لتحرير الكويت"، وصولًا إلى تشكّل المثلث المصري ـــ السعودي ـــ السوري (الذي سبقه عودة مقرّ الجامعة العربية إلى القاهرة عام 1990). وقد لعب هذا المثلث دورًا ناظمًا للعلاقات العربية – العربية، ومسهلًا خلق أجواء إيجابية بين دول الخليج وإيران "المصالحة" الإيرانية – السعودية، التي مهّد لها لقاء غير رسمي بين ولي العهد السعودي الأمير عبد الله والرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني على هامش مؤتمر القمة الإسلامية في السنغال (1991)، وتوّجها توقيع الجانبين اتفاقًا للتعاون الأمني في طهران عام 2001.
مصالحات مستدامة؟
يستند من يتبنّون وصف المصالحة الإيرانية ـــ السعودية التي يسّرتها بكين أخيرًا، بـ"المفصلية" و"التاريخية"، إلى أنها جاءت في لحظة "انكفاء" واشنطن التي لطالما سعت إلى الاستثمار في الخلافات بين دول المنطقة، وعلى رأسها الخلاف الإيراني ـــ الخليجي، فضلًا عن وصول طهران والرياض إلى قناعة مفادها أن العدمية السياسية لا تصب في مصلحة أي منهما.
وتطرح هذه الفرضيّة أسئلة عدة. فإذا كان ما يُفسّر اتفاق 2023 هو "لحظة الضعف الأميركية"، ما الذي يفسّر إذًا تقارب التسعينيات الذي جاء في ذروة قوّة واشنطن، ولماذا سمحت واشنطن بحصوله؟ بالطبع، كانت ساحات الاشتباك بين طهران والرياض في التسعينيات أقل بكثير من ساحات الاشتباك بينهما اليوم. ومع ذلك، تراجع أثر مصالحة التسعينيات بسرعة نسبيًا.
ويبدو أن مشروع الاتفاق السعودي ـــ السوري يسير بخطى متسارعة بعدما قررت الرياض، بترحيب من دمشق، العودة بقوة ملعب المؤثرين في الملف السوري. ويبرز هنا التركيز السعودي على ملف إعادة اللاجئين، وهو أمرٌ يخصّ الرياض بقدر ما يخص سواها من دول الإقليم. فمنذ العام 2012، دخل مئات آلاف السوريين (غير المتحصلين على إقامة) الأراضي السعودية كزوار، وما زال كثير منهم هناك حتى الآن.
الموقف القطري قد لا يكون نهائيًا، وقد يتأثر بما ستسفر عنه مباحثات أنقرة مع دمشق وما ستفضي إليه الانتخابات التركية
كذلك تدرك الرياض أن طهران، بعد أكثر من عشرة أعوام على حضورها في سوريا، راكمت حضورًا وازنًا ساعدها على تشكيل حاضنة شعبية لها في مناطق عدّة، خصوصًا في دمشق وحلب والمنطقة الشرقية. في المقابل، تشكّلت لتركيا حاضنة شعبية تتمثل بعدد معتبر من السوريين في الأراضي التركية، بالإضافة إلى السوريين في الشمال الخاضع لسيطرة أنقرة. وعلى النحو نفسه، لن يبدو غريبًا تعويل الرياض على عودة السوريين الموجودين على أراضيها والأراضي الأردنية واللبنانية ليكونوا نواة حاضنة شعبية لدورها المنتظر.
ماذا عن الجامعة العربية؟
كما هو معلوم، واجه مشروع عودة دمشق لشغل مقعدها في الجامعة العربية اعتراض عدد من الدول الأعضاء، على رأسها قطر التي يبدو موقفها الحالي متسقًا مع مواقفها السابقة على امتداد الحدث السوري. غير أن هذا الموقف قد لا يكون قاطعًا ونهائيًا، بانتظار ما ستسفر عنه مباحثات حليفتها أنقرة مع دمشق، وهذه بدورها قد تظل معلقة بانتظار ما ستفضي إليه الانتخابات التركية.
أما الموقف المصري، فيبدو منكفئًا، ربما ربطًا بالخلاف بين مصر والسعودية والإمارات على مقاربة ملف الاقتتال في السودان، فضلًا عن تبعات الأزمة الاقتصادية المصرية المتفاقمة، علمًا بأن هذا الموقف لا يتناسب مع طبيعة العلاقات الأمنية التي لم تنقطع بين دمشق والقاهرة على امتداد معظم سنوات الحرب السورية.
في مطلق الأحوال، يبدو أن النجاح السعودي في إعادة سوريا إلى الجامعة العربية من بوابة القرار رقم 8914 قُبيل القمة العربية المقبلة في السعودية (19 أيار/مايو) سيعطي زخمًا لهذه القمة، ويسمح لولي العهد السعودي محمد بن سلمان بتسجيل نقطة مهمة.
لكن هل ستكون المصالحات هذه المرة استراتيجية مستدامة، بما يسمح بتحويل الإطار المتشكّل إلى قوة تقود المنطقة، بدل اكتفاء أركانه بلعب دور البيدق الذي يكون في العادة أول من يُضحى به؟