Image Credit: Karam Almasri/Getty Images
لا يُعدّ اقتتال فصائل المعارضة السورية الذي شهده الشمال السوري خلال الأسبوع الأخير بين "الفرقة 32" ("أحرار الشام") و"الفيلق الثالث" ("الجبهة الشامية" و"جيش الإسلام") حدثًا استثنائيًا. فسجلّ معظم الفصائل حافلٌ بأحداث دامية نتيجة جولات عدّة من "حروب الإخوة الأعداء"، مثل معارك 2013 و2014 في منطقة إعزاز بين "لواء عاصفة الشمال" (يشكّل ما تبقى من عناصره حاليًا جزءًا من "الجبهة الشامية") و"جيش محمد" (عناصره حاليًا جزء من تنظيم "حرّاس الدين" المبايع لتنظيم "القاعدة")، أو الاقتتال بين "لواء شهداء اليرموك" (لاحقًا "جيش خالد بن الوليد") وفصائل "الجبهة الجنوبية" في حوض اليرموك بريف درعا الغربي عام 2015، ثم الاقتتال الأشهر في غوطة دمشق بين فصيلي "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، بالإضافة إلى معارك "جبهة النصرة" مع العديد من الفصائل ("حزم"، "ثوار سوريا"، "نور الدين الزنكي"...) والتي تحتاج إلى بحث خاص للإحاطة بها. في المجمل، لا نبالغ إن قلنا إنه منذ تأسيس الفصائل حتى يومنا هذا، لا تكاد تتوقف واحدة من "معارك الإخوة"، حتى تندلع أخرى بين "إخوة آخرين".
لكن، برغم كل ذلك، يستحق الاقتتال الأخير كلّ ما ناله من اهتمام ورصد ومتابعة وتحليل. فالمعارك التي انطلقت شرارتها من الباب في ريف حلب الشرقي (منطقة "درع الفرات") وامتدت تداعياتها إلى عفرين (منطقة "غصن الزيتون")، تحظى بخصوصية مهمة لأسباب عدّة، على رأسها توقيت الاقتتال الذي جاء في خضمّ مساعي أنقرة المحمومة سياسيًا وعسكريًا لإطلاق عمليتها الميدانيّة الجديدة في الشمال السوري، والتي طال الحديث عنها، بالإضافة إلى دخول "هيئة تحرير الشام" بشكل علنيّ لأول مرة إلى قرى عفرين.
مجريات المعركة ونتائجها
سيطر عناصر من "الجبهة الشامية" و"جيش الإسلام" على مقار "أحرار الشام" في ريف الباب (قريتي عولان وعبلة) بعد اشتباكات عنيفة استُخدمت فيها الأسلحة المتوسطة والثقيلة، وكان لافتًا استخدام الدبابات، قبل أن تتدخل "هيئة تحرير الشام" مرسلةً قوة عسكرية لمؤازرة "أحرار الشام"، فارضةً سيطرتها على أكثر من عشر قرى في ريف عفرين، وصولًا إلى تخوم مدينة عفرين نفسها (قرية كرزيلة الواقعة على بُعد 5 كلم جنوبي المدينة). وبعد نحو يومين من الاقتتال، توصّلت الأطراف المتقاتلة إلى اتفاق يقضي بعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل المعارك، أي إلى تبادل الأسرى وتسلّم "أحرار الشام" مقارها في قرية عولان، في مقابل انسحاب "هيئة تحرير الشام" من قرى عفرين.
وفي استعراض لما تم تداوله من نتائج للاقتتال الأخير، نجد أن البعض تبنّى فرضيّة أنّه شكّل رسالة تركية تحذيرية أو "فركة أذن" لـ"الجبهة الشامية" و"جيش الإسلام" بعد تقاعسهما (المزعوم) عن تنفيذ تعليمات تركية، وتلويحًا بأن سيف "تحرير الشام" سيفتك بهما إن تقاعسا مرة أخرى عن تنفيذ تلك "التعليمات".
ويرى البعض، ربطًا بذلك، أن إشغال فصائل المعارضة ومناصريها بمسألة الاقتتال غايته صرف الأنظار عن إحجام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن تنفيذ عملية عسكرية تستهدف تل رفعت ومنبج في المرحلة الأولى، في ضوء إخفاق أنقرة (حتى الآن) في الحصول على ضوء أخضر روسي أو أميركي.
"هيئة تحرير الشام" تسلّلت بالفعل إلى منطقة عفرين منذ زمن، وهي تنتهز الفرصة تلو الأخرى لتعزيز حضورها بعد هذا التسلل
في المقابل، يرى البعض أن الموضوع لا علاقة له برسائل مُشفّرة، وأنّ كل ما في الأمر أن حلقة أخرى من سلسلة "معارك الإخوة" اندلعت، وهو غالبًا ما يحصل لأسباب مالية متصلة بالمعابر، ومحاولات السيطرة على مسالك تهريب البشر والمخدرات والمحروقات والتبغ والمواد الغذائية.
ولدى تمحيص الفرضيّتين، يتبيّن أن عوامل عدّة تُضعف من وجاهة الفرضيّة الأولى، منها مثلًا أن أنقرة ليست بحاجة إلى "تحرير الشام" كي تضغط على "الجبهة الشامية". إذ إنها تستطيع ببساطة كفّ يدها عن إدارة معبر باب السلامة الحدودي. وما يُضعف هذه الفرضية أكثر هي العلاقة الشخصية المتينة والقديمة التي تربط مؤسس "الجبهة الشامية" وقائدها الفعلي عبد العزيز سلامة بقائد "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني (يرأس "الجبهة الشامية" حاليًا مهند الخلف، فيما يُعتبر سلامة – نظريًّا - مستشارًا لـ"الجبهة" فحسب)، إلى درجة دفعت البعض إلى اتهام سلامة بمبايعة الجولاني.
أما فرضية "صرف الأنظار عن تعثّر العملية العسكريّة التركيّة"، فتُضعف من وجاهتها عوامل أخرى، من بينها أنها ليست المرة الأولى التي يُعلن الرئيس التركي فيها عزمه تنفيذ عملية عسكرية، أو يطلق فيها تهديدات ويتوعّد، ويرسم خطوطًا حمراء. ليست أنقرة، والحال هذه، بحاجة إلى "فبركة" اقتتال لإخفاء حرجها أمام قادة فصائل لا تملك القدرة (أو الجرأة) أساسًا على مناقشة الخطط التركية والاعتراض عليها.
لقد تحدّثت وسائل إعلام عن انسحاب "هيئة تحرير الشام" من قرى عفرين بعدما دخلتها، ولكن يُفيد التساؤل هنا: هل الأعداد التي دخلت هي ذاتها التي خرجت؟ والأهم من ذلك؛ هل العناصر التي دخلت هي ذاتها تلك التي خرجت؟ وماذا عن انتشار عناصر "الهيئة" قبيل الاقتتال الأخير في مناطق استراتيجية في ريف عفرين الجنوبي الغربي (قرى كباشين، وباصوفان، وبرج حيدر، وفافرتين، وبعية)، بالتنسيق مع "فيلق الشام" المحسوب على جماعة "الإخوان المسلمين" في سوريا، فضلًا عن انتشار عناصر يتبعون لـ"الهيئة" في ناحيتي معبطلي وشيخ الحديد (تتبعان عفرين) مطلع العام الحالي، على خلفية الخلاف بين "غرفة عمليات عزم" و"فرقة السلطان سليمان شاه" المعروفة بـ "العمشات"، واستمرار وجودهم حتى اليوم، لكن تحت راية "العمشات".
خلاصة القول هنا أنّ "هيئة تحرير الشام" تسلّلت بالفعل إلى منطقة عفرين منذ زمن، وهي تنتهز الفرصة تلو الأخرى لتعزيز حضورها بعد هذا التسلل، مستفيدة من غطاء الفوضى التي توفّرها لها الاقتتالات المتتابعة، علمًا بأن حضورها يتّسم بكونه مستترًا إلى حدّ ما، بما ينفي عن المنطقة "شبهة التبعيّة لتنظيم متطرف"، ويصلح في الوقت ذاته للاستثمار، ربما بتنسيق مع أنقرة، حين تدق الساعة المناسبة.
لا شك في أن أحداثًا ستقع في المدى المنظور لتقدّم إجابات على الكثير من التساؤلات. في هذه الأثناء، يمكن الركون إلى قراءة مفادها أن "تحرير الشام" باتت رقمًا لا يمكن تجاوزه في مناطق "غصن الزيتون" و"درع الفرات"، بل حتى "نبع السلام"، وأن المعطيات المتكشّفة تباًعا توحي بأننا على موعد مع صيف ساخن سوريًّا، وربما إقليميًا.