لقاء موسكو من زاوية أخرى: طهران في صف "قسد"؟

من المرجح أن تحمل الأيام المقبلة أخبارًا عن لقاءات تركية-إيرانية. ولعل مصلحة "قسد" تكمن اليوم بالتواصل الاستراتيجي مع دمشق، وكذلك مع المعارضة التي تتمتع بهامش من الاستقلالية.

ما إن أُعلن عن اجتماع موسكو الذي ضم وزراء دفاع تركيا وروسيا وسوريا في 28 كانون الأول/ديسمبر 2022، حتى انهمرت تعليقات وتحليلات رغبوية أكثر منها واقعية، ذكّرتنا بالتحليل الأشهر "خلصت"، وإن انقسمت الآراء هذه المرة حول تفسير "خلصت" انطلاقًا من اختلاف الهوى السياسي بين من يصنف اللقاء انتصارًا لدمشق، ومن يراه انتصارًا لأنقرة.

اللافت إجماع الطرفين على أن اللقاء بحد ذاته ضربة قاصمة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" / "قسد". فما صحة ذلك؟ وما هي أجواء "قسد" قبل الإعلان عن اجتماع موسكو وبعده؟

ليس سراً أن "قسد" كانت طوال الأشهر الستة الماضية تعيش تحت ضغط كبير، وشعور بخطر حقيقي قد يكون الأكبر منذ تأسيسها في تشرين الأول/أكتوبر 2015. لم يكن منبع هذا الشعور التهديدات التركية فقط، فهذا أمر تعايش معه قادة "قسد"، لا منذ تأسيسها فحسب، بل على امتداد نحو أربعين عامًا من عمر الصراع المسلح بين تركيا و"حزب العمال الكردستاني" (الذي سبق لبعض قادة "قسد" أن شاركوا في الكثير من محطاته، قبل العودة إلى سوريا مطلع العام 2012).

ما سبّب الخشية هذه المرة كانت معلومات عن جهود جدّية يبذلها ساسة وقادة أمنيّون في كل من إيران وتركيا، بمباركة روسية، وضبابية أميركية، بهدف التوصّل إلى اتفاق استراتيجي ينطلق من نقاط الاتفاق وينتهي بحلحلة نقاط الاختلاف، ولا يوجد أهم وأكبر من الملف الكردي (ليس في سوريا فقط إنما في عموم المنطقة) ليشكل نقطة التقاء، ورافعة لحل بقية الملفات الخلافية بين أنقرة وطهران. لكن ترجمة أي اتفاق بين أنقرة وطهران إلى خطوات عملية مثمرة تستلزم بالضرورة عودة "التوافق الرباعي" بين طهران وبغداد وأنقرة ودمشق، وهذا يعني بالضرورة عودة العلاقات التركية-السورية إلى مرحلة ما قبل آذار/مارس 2011.

من هذه الزاوية يمكن فهم دوافع زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان إلى دمشق في 2 تموز/ يوليو 2022 قادمًا من أنقرة. وقد حدّد في تصريحات له وقتذاك الهدف من زيارتيه بـ"إحلال السلام والأمن في المنطقة بين سوريا وتركيا باعتبارهما دولتين تربطهما علاقات مهمة مع إيران".

في 16 أيلول/سبتمبر انطلقت الاحتجاجات الشعبية في بعض المناطق الإيرانية على خلفية مقتل الشابة مهسا (جينا) أميني، واتهمت إيران الأحزابَ الكردية الإيرانية التي يقيم بعضُ قادتها وعائلات عناصرها في إقليم كردستان العراق بتأجيج الاحتجاجات، وبنقل أسلحة إلى الداخل الإيراني. زادت حدة التصريحات الإيرانية وبلغت حدّ التلويح بعدم الاكتفاء باستهداف إقليم كردستان عبر سلاحي الطيران والمدفعية، بل باللجوء إلى عملية عسكرية برية لاجتياح الإقليم. كل ذلك بالتزامن مع إعلان أنقرة إطلاق عملية "مخلب السيف" في 20 تشرين الثاني/نوفمبر، التي تستهدف قوى كردية في سوريا والعراق، ردًا على تفجير اسطنبول واتهام أنقرة للكرد بتنفيذه.

كل هذه المعطيات دفعت بطهران وأنقرة إلى الإسراع لعقد الاتفاق الاستراتيجي المنشود، وما يتضمنه من خطوات (عودة العلاقات التركية-السورية برعاية إيرانية، وتوجيه ضربة قاصمة للأحزاب الكردية الإيرانية في إقليم كردستان العراق، والإطباق عليها بعمل استخباراتي وربما بتنسيق عسكري مباشر إن استلزم الأمر، والأمر ذاته ينطبق على "قسد" من زاوية تركية). وقد ترافقت المساعي بتكثيف الضخ الإعلامي لوسائل محسوبة على كل من تركيا وإيران، جهدت لتحميل القوى الكردية المسؤولية عن معظم مشكلات المنطقة، من إيران إلى تركيا، مرورًا بسوريا.

من المرجح أن تحمل الأيام المقبلة أخبارًا عن لقاءات تركية-إيرانية على أعلى المستويات، وهذا ما يجب أن تعيه "قسد"

هكذا، عاشت "قسد" وبعض الأحزاب الكردية في العراق وإيران أجواء تشبه إلى حد كبير الأجواء التي سبق ومهّدت لدخول "الحشد الشعبي" مدينة كركوك، بتوافق تركي-إيراني، وغض نظر أميركي-أوروبي، ردًا على الاستفتاء الذي نظمه إقليم كردستان للانفصال عن العراق في 25 أيلول/سبتمبر 2017، ليخسر الكرد في العراق أهم المدن: كركوك، وبعد أشهر يخسر الكرد في سوريا مدينة لا تقل أهمية هي عفرين.

فجأة، بدا أنّ شيئًا ما قد تغير، وتصدرت الواجهة أحاديث عن تقارب سوري-تركي برعاية روسية حصرًا. وتغيرت بوصلة وسائل الإعلام المحسوبة على إيران بلا تمهيد لمصلحة "قسد" و"الإدارة الذاتية". أما مؤشر التغير الأبرز، فجاء قبل لقاء موسكو بنحو أسبوع، مع زيارة بافل طالباني رئيس حزب "الاتحاد الوطني الكردستاني" إلى القامشلي، للقاء قادة "قسد" في 20 كانون الأول/ديسمبر.

حملت هذه الزيارة رسائل كثيرة في الشكل والمضمون، من بينها أن بافل طالباني (نجل جلال طالباني الرئيس العراقي الأسبق) هو أول رئيس حزب كردستاني يزور سوريا منذ اندلاع الحرب السورية. والأهم أن طالباني يُعرف بعلاقته المتينة بطهران، ومن شبه المستحيل أن يقدم على زيارة كهذه بلا تنسيق معها، وهو ما جعل الزيارة أقرب إلى كونها رسالة إيرانية تعبّر عن انزعاج من تراجع أنقرة عن بعض التزاماتها (من غرائب ما يحدث في المنطقة أن تصل رسالة إيرانية إلى تركيا، عبر مروحية أميركية، وبرفقة وفد من التحالف الدولي). أما ما يُفهم من الرسالة، فأنّ طهران قادرة على تحويل مواجهة تركيا مع "قسد" في سوريا، إلى حرب تركية - كردستانية، شاملة الأراضي السورية والعراقية وحتى العمق التركي (طالباني زار "قسد" مرتديًا الزي العسكري).

كذلك، يرى بعض المراقبين أن من بين مؤشرات الانزعاج الإيراني من لقاء موسكو تأجيلُ زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى دمشق، وتأجيل زيارة أخرى لرئيسي إلى أنقرة (ستكون في حال حصولها الأولى لرئيس إيراني إلى تركيا منذ أربع سنوات).

أمام كل المعطيات السابقة، تحول التقارب السوري-التركي الموعود من جسر لتحالف تركي-إيراني، إلى نقطة خلافية جديدة تُضاف إلى نقاط عديدة متراكمة، مثل انزعاج طهران المتجدد من سماح أنقرة لحلف "الناتو" بإنشاء قاعدة "كورجيك" العسكرية المخصصة لأنظمة المراقبة وجمع المعلومات، ناهيك عن احتوائها أنظمة لاعتراض الصواريخ الباليستية، وهي قاعدة "تستهدف إيران بالمطلق" من وجهة نظر إيرانية.

يُضاف إلى ما سبق التوتر بين أذربيجان وإيران، إذ تتهم الأخيرة تركيا بتأجيجه مستدلة بتصريح للرئيس الأذربيجاني إلهام علييف في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، قال فيه: "على من لديهم خطط خبيثة ضد أذربيجان أو تركيا أن يعرفوا أن الجيش التركي ليس فقط جيش تركيا، بل هو جيشنا أيضًا، وجيشنا هو أيضًا جيش تركيا".

كما أن البعض في طهران يتهم أنقرة بالتدخل في شؤونها الداخلية عبر التواصل مع الإيرانيين الآذريين والأتراك والتركمان، ونقل العديد منهم ممن دخلوا الأراضي التركية تحت غطاء الهجرة إلى مناطق إدلب وعفرين، وإلحاقهم بمعسكرات "حركة أنصار الإسلام" و"الحزب الإسلامي التركستاني"، الذي بات الإيرانيون من "الأتراك القشقاي" جزءًا مهمًا منه.

من النقاط الخلافية أيضًا يبرز ملف إعادة إعمار مدينة حلب، إذ تسعى تركيا منذ الآن لضمان تلزيم الشركات التركية بهذا الملف، وهو ما تراه طهران تهديدًا للجهود التي بذلتها طيلة عشر سنوات في حلب، على الصعد العسكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

كل ما تقدم لا يعني أن العلاقات التركية-الإيرانية بلغت حد الانفجار أو القطيعة. فبرغم الخلافات التي وصلت أحيانًا إلى حد الصدام المباشر (كما حصل في معارك مدينة سراقب السورية 2020)، لا يخفى على متابع للشأنين الإيراني والتركي أنّ طهران وموسكو تُعتبران أبرز داعمَين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وتفضلانه على أحزاب المعارضة التركية، وأنهما لن تدخرا جهدًا لضمان فوزه في الانتخابات المقبلة.

بالتالي، فمن المرجح أن تحمل الأيام المقبلة أخبارًا عن لقاءات تركية-إيرانية على أعلى المستويات. وهذا ما يجب أن تعيه "قسد". فصحيح - وعلى عكس ما يشاع - أن الضغوط عليها باتت أخف نسبيًا بعد لقاء موسكو، إلا أن الركون إلى هذه الحقيقة من دون إتباعها بخطوات تحميها من ضغوط مستقبلية (قادمة لامحالة)، هو خطأ كبير في الحسابات، وخطيئة بحق المدنيين الذين سيدفعون كما العادة الفاتورة الأكبر.

ولعل مصلحة "قسد" تكمن اليوم بالعمل على مسارين: الأول يتمثل بالتواصل الاستراتيجي الجدي مع دمشق، والثاني بالتواصل مع المعارضة التي تتمتع بهامش من الاستقلالية (تشير معلومات إلى أن العديد من الفصائل والشخصيات المعارضة فتحت قنوات اتصال مع "قسد" بُعيد الإعلان عن لقاء موسكو). وثمة من يرى أن "قسد"، إن أحسنت العمل على هذين المسارين، قد تحقق مكسبًا استراتيجيًا، مصلحيًا، ووطنيًا، وأخلاقيًا، أقله عبر تهيئة الأجواء للقاءات سوريّة – سوريّة على الأراضي السوريّة، بعيدًا عن التدخلات الدولية، لعلّها تكون الأولى لجهة نأيها بالأراضي السورية عن كونها مجرد صندوق بريد، يتبادل فيه المتنافسون الإقليميون الرسائل.

الرياض - طهران - دمشق: مفصل تاريخي أم سكون بين عاصفتين؟

يذهب البعض إلى القول إنّ الأحداث التي تعيشها سوريا منذ آذار/مارس 2011 إنما هي نسخة موسّعة لأحداث..

ريزان حدو
سوريا: عقدٌ اجتماعي بلا هوية جامعة!

بات لكثير من السوريين عقدان اجتماعيان: الأول، ظاهري يدّعي واحدهم أنه راضٍ عنه، ويتظاهر أنه ملتزمٌ به،..

ريزان حدو
تصعيد تركي في الشمال السوري: ما السيناريوهات المحتملة؟

بات من المسلّم به أن أنقرة جادة ومصرّة على تنفيذ "مشروعها الاستراتيجي" للشمال السوري عبر استكمال ما..

ريزان حدو

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة