"تُقاسمنا مياه شربنا!"... عن المكيّفات الصحراويّة في اليمن

الصيف في وادي حضرموت في اليمن شديد السخونة. يستخدمُ السكان خلاله المكيّفات الصحراويّة المُصنّعة محليًّا للتغلب الحرارة. لكنّ هذه المكيّفات باتت تزاحم سكان المحافظة... على مياه الشرب.

تتميز مدن وقرى وادي حضرموت جنوبَ شرقِ اليمن بالعمارة الطينية، إحدى وسائل تأقلم اليمنيين مع المناخ المداري الحار والجاف السائد هناك.

تُساعد مادة الطين، بما تحتويه من صفات فيزوحرارية، المباني على مقاومة المناخ الخارجي، والاستغناء تقريبًا عن وسائل التبريد أو التدفئة، إلا أن مباني الطين نفسها في وادي حضرموت، باتت في الوقت الحاضر على النقيض، لا تخلو من المكيفات.

"من دون مكيفات منازلنا تكاد لا تطاق"، قال يونس منقر، 38 عامًا. "الحرارة أصبحت شديدة للغاية!".

من بين وسائل التكييف، يشيع في مناطق الوادي ـــ بما فيها تريم بلدة منقر ـــ استخدام المكيّف الصحراوي، أو ما يسمى أيضًا بآلة التبريد التبخيري. وهو يعد وسيلة التكييف المناسبة للمناطق الجافة والقاحلة، حيث يعتمد على تبريد الهواء الحار والجاف وترطيبه من خلال تبخّر المياه.

السكان هناك يلجأون إلى هذا النوع، كما قال منقر لـ"أوان"، لكونه أوفر لهم بكثير من حيث تكاليف الشراء والتشغيل والصيانة  من المكيفات الأخرى، غير أن له، برغم ذلك، موقف مختلف إزاءها: "إنها تقاسمنا مياه شربنا"، قال.

يتكوّن المكيف من مضخة مياه، ومحرّك مروحة، ومروحة، وحوض لجمع المياه (قاعدة المكيف)، وجدار مزدوج محشوٍ بالقش أو نشارة الخشب بسطحه الخارجي فتحات تهوئة مستطيلة، وتقوم آلية التبريد على ضخ المياه ورشّها عبر أنابيب جانبية على الحشوة، قبل أن تسحب المروحة الهواء من الخارج ويعبر من خلال الحشوة المبللة إلى داخل المكان المُراد تبريده.

 آلية عمل المكيف تقتضي وجود مصدر منتظم للمياه. لذلك يتم ربطه في مناطق وادي حضرموت مباشرة بشبكه المياه الحكومية، علمًا بأن مصدر الأخيرة المياه الجوفية العذبة، وتعتمد كمية المياه المستهلكة على درجة الحرارة الخارجية.

"والله تسحب ماء يم في الليلة الواحدة. يستهلك المكيف الواحد أكثر من نصف برميل من الماء، وماء عذب طبعًا" قال يونس. وأضاف: "في كل منزل توجد أربعة مكيفات على الأقل، ولك أن تتخيل فداحة المشكلة".

يبلغ نصيب الفرد من المياه في اليمن 80 متر مكعب/سنة، وهو أقل بكثير من مستوى فقر المياه بحسب البنك الدولي

لكن" المياه وفيرة ورخيصة الثمن هنا"، قال عوض الصغير (40 عامًا) أحد سكان مدينة سيؤون عاصمة وادي حضرموت، "ولا يُلقي الكثيرون بالًا للهدر الحاصل لها، سواء كان ناجمًا عن التكييف أم غيره".

وتحمل حضرموت في جوفها، إلى جانب النفط، مخزونًا مائيًا هائلًا. إذ تتشارك مع محافظتي الجوف والمهرة في حوض الربع الخالي، أكبر أحواض اليمن، بـمساحة 126198 كم²، وتقع أجزاء منها على ثاني أكبر أحواض البلاد، حوض رملة السبعتين 90617 كم، كما على ثلاثة أحواض أخرى.

وتقدر كمية المياه الجوفية في الوادي، وادي حضرموت، لوحده، بحوالي 284 مليار م³، غير أن منسوبها ينخفض بمقدار 60-80 سم/سنة، حيث يبلغ معدل الاستخراج سبعة أضعاف معدّل التغذية. ويُستهلك أكثر من 90٪ من المياه المستخرجة للأغراض الزراعية، بينما تذهب النسبة المتبقية للاستهلاك المنزلي.

"لا شك أن استعمال المكيفات الصحراوية هو أبرز الاستخدامات المنزلية غير السليمة للمياه في وادي حضرموت"، قال عمر بن شهاب رئيس الهيئة العامة لحماية البيئة في وادي حضرموت. "نظرا إلى استهلاكها للمياه على ذلك النحو المفرط، يترتب على استعمال هذه المكيفات بالطبع ضرر على المياه الجوفية". أضاف قائلًا.

تكيّف

الصيف في وادي حضرموت يمتد من مايو/أيار حتى أكتوبر/تشرين الأول. وعلاوة على حرارته الشديدة مقارنة بباقي مناطق اليمن، فإن التغيرات المناخية ـــ وفق ما أفادت دراسة بحثية ـــ ضاعفت بشكل ملحوظ من سخونته خلال السنوات الأخيرة.

وفق عمر بن شهاب، يكاد متوسط درجة حرارة الوادي العظمى يقترب من 50 درجة مئوية خلال ذروة الصيف، ما قد يفسر، من وجهة نظره، الحاجة الحالية الماسة إلى استعمال أجهزة التكييف.

"برغم أنها متوفرة منذ أن جلبها المغتربون في دول الخليج في تسعينيات القرن الماضي، لم يبدأ توجه المواطنين إلى المكيفات الصحراوية كما هو الحال اليوم سوى في العقدين الأخيرين"، قال شهاب، مضيفًا "إنها إحدى أدوات التكيف مع تغير المناخ".

وفي سياق متصل، أظهرت الدراسة انخفاضًا في كميات الهطول المطري بوادي حضرموت خلال نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الحالي، كنتيجة لتأثيرات تغير المناخ نفسه، برغم بقائها عند مستويات متقاربة في سائر حضرموت كما تُظهر بيانات البنك الدولي (أنظر الرسم البياني أعلاه).

بمقارنة متوسط الهطول الشهري بين الفترة 2001 ـــ 2010 وبين 1981 ـــ 2010، في وادي حضرموت، تبين أن إجمالي المتوسط الشهري للسنوات العشر بلغ نحو 40 ملم، في حين بلغ متسوط السنوات الثلاثين 62 ملم، "وهي كمية هطول قليلة جدًا لا تساعد على تغذية الأحواض المائية"، وفق نص الدراسة.

10 لترات في الساعة

تمنح المكيفات الصحراوية أبناء تريم بجانب البرودة بعض التقدير. ذلك لأن للمدينة، وفق عوض الصغير، "فخر تصنيعها وتطويرها وتصديرها إلى محافظات مأرب، والمهرة، وصعدة ومناطق حدودية بين اليمن والمملكة العربية السعودية". اليوم، يوجد في المدينة أكثر من عشرة مصانع، تمثل مصدر رزق للمئات.

أُجريت على المكيف في هذه المصانع تعديلات بحسب الحاجة، أبرزها تكييفه للعمل مع مصدر طاقة منخفض كالألواح الشمسية، وذلك حلًا لمشكلة انطفاءات الكهرباء الحكومية التي يعاني منها سكان الوادي بكثرة خلال الصيف.

وتُعتبر أسعار المكيف الصحراوي أقل ثلاث مرات من المكيفات الأخرى. إذ تتراوح أسعاره، بأحجامه الثلاثة (صغير ووسط وكبير) بين 400 إلى 550 ريال سعودي فقط (106.66-146.66 دولار أميركي).

لكن، ولعل ذلك هو السؤال الأهم: ما كمية استهلاك هذه المكيفات للمياه؟

مالك أحد المصانع، فضل عدم ذكر اسمه، قال إن المكيف "من النوع الصغير يستهلك في غضون ساعة فقط ما لا يقل عن 10 لترات"، وهي كمية كافية لشرب خمسة أشخاص بالغين خلال يوم كامل.

تقديرُ الرجل يتفق مع إفادات مواطنين آخرين كما هو مع نتائج تجربة عملية أجراها معد هذا التقرير.

وبناء عليه، تكون كمية المياه المطلوبة لتشغيل مكيف واحد لمدة 10 ساعات أزيد من متوسط الاستهلاك اليومي للفرد في وادي حضرموت المقدر بـ87 لترًا.

اختبار التأثير

الوصول إلى إحصاءات دقيقة حول الاستهلاك السنوي للمكيفات من المياه في الوادي مسألة معقدة بعض الشيء، لكن الزيادة المحتملة للطلب على المياه خلال أشهر الحرارة التي يترافق معها الاستخدام المفرط للمكيفات، قد تعطي لمحة عامة.

يمكن اختبار ذلك في تقارير توزيع مبيعات المياه التابع للمؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي (حكومي)، ونظرًا لأن طبيعة استخدام المكيفات متماثلة في مناطق وادي حضرموت، اكتفينا باختبار تقارير مبيعات المياه في مدينة تريم.

بلغ إجمالي مبيعات المياه في تريم عام 2022 حوالي 3,343,217 متر مكعب، وفق نسخة حصرية بـ"أوان" من تقرير المؤسسة المحلية في المدينة.

ويبين التقرير زيادة ملحوظة في الطلب على المياه في تريم تبدء في شهر نيسان/أبريل، وتصل ذروتها بين أيار/مايو وأيلول/سبتمبر ثم تنخفض بشكل طفيف حتى نهاية العام، وهذه بالطبع فترة المناخ الحار في وادي حضرموت.

"نسبة ليست قليلة من المياه المستهلكة تلك تُصرف بلا شك في التكييف"، قال مدير المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي في تريم المهندس محمد بن سلم لـ"أوان"، مضيفًا: "تشكل المكيفات استنزاف كبير للمخزون المائي في تريم وحضرموت الوادي".

وبحسب بن سِلم "استنزاف كهذا قد لا يقل في خطورته على المخزون المائي في تريم وحضرموت الوادي عن الحفر العشوائي للآبار ومخلفات التنقيب على النفط".

حوكمة ملف المياه

في المنازل العالية، كما هو الحال في مدينة شبام (الملقبة بـ"منهاتهن الصحراء" لتميّزها بناطحات سحاب طينية شاهقة)، يمثل تغذية ميكفات الطوابق الأخيرة بالمياه عملًا مضنيًا كما هو الحال مع الشقيق الأكبر لمحفوظ السعدي.

" وضع أخي على سطح غرفته خزانًا صغيرًا، وها هو يصعد بين ساعة وأخرى لتعويض ما يستهلكه المكيف من الماء"، قال.

السعدي يستبعد اليوم اقتناء مكيف من هذا النوع لشقته المستقلة التي شرع في تأثيثها. لا يتعلق قراره  بتجربة شقيقه فقط، إنما لإدراكه قبل ذلك التهديد البيئي الذي يمثله المكيف، إلى جانب أسباب أخرى.

"لا يعمل المكيف على فلترة الهواء الخارجي، بل يدفع به إلى الغرفة مع أي روائح أو ملوثات أخرى موجودة، وقد يترتب على ذلك مشاكل صحية"، قال محفوظ.

في المحافظات الأخرى، حيث تُستعمل المكيفات الصحراوية أيضًا، ولكن تتردى شبكة المياه الحكومية ـــ كمحافظة مأرب الغنية بالغاز مثلًا ـــ يُعتبر إمداد المكيف بالماء التحدى الأبرز والأصعب.

هناك، لا يزال غالبية السكان يحصلون فقط على المياه التجارية عبر الشاحنات ويحتفظون بها في خزانات، وهي، إلى جانب أنها محدودة، تُعتبر إلى حد ما مكلفة كذلك.

"لم يستطيع كثيرون الاستمرار في استخدام المكيفات الصحراوية بمن فيهم أفراد عائلتي"، قال عزي المصري (20عامًا) وهو من أبناء محافظة ذمار لكنه نازح وعائلته في مأرب.

وبرغم أن المكيف الصحراوي، بعكس أنظمة التكييف الأخرى، لا يساهم في انبعاث الغازات الدفيئة المسببة للاحترار العالمي، "إلا أنه لا يمكن التسامح مع ما يمثله من تهديد بيئي على منطقة محدودة الموارد المائية كاليمن"، قال بن شهاب.

فبين الدول ذات الإجهاد المائي المرتفع، يحتل اليمن المرتبة الـ20، متقدمًا عشر مراتب على تونس التي أُعلنت فيها قبل أسابيع حالة طوارىء مائية.

ويبلغ نصيب الفرد من المياه في اليمن 80 متر مكعب/سنة، وهو أقل بكثير من مستوى فقر المياه بحسب أرقام البنك الدولي، والبالغ 1000 متر مكعب/ للفرد/ السنة.

ومع أن في دستور البلاد "قوانين ناظمة لاستخراج المياه الجوفية"، كما يقول المحامي خالد الكمال لـ أوان "إلا أنه يبدو أننا بحاجة لسن قوانين أخرى تنظم عميلة الاستعمال أيضًا".

أما مدير الهيئة العامة للموارد المائية بوادي حضرموت، فأكد هو الآخر "أن مشكلة المياه في اليمن تتمثل في سوء الإدارة الرسمية"، مضيفًا أن "هناك حاجة ملحة إلى حوكمة وإدارة رشيدة لملف المياه في حضرموت واليمن عمومًا".

تأشيرة عمل في السعودية... المهنة: مقاتل

بعد دخول المجند إلى الأراضي السعودية، تصير العودة إلى بلاده في الغالب أُمنية صعبة التحقيق. وما لم تحدث..

عبد الملك النمري

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة