"أنكل توم"، الكاتب العربي، وإسرائيل
لافتٌ ما يقوله وما لا يقوله "ثوار" حيال سرديّة لا وجود فيها للشعب الفلسطيني ولا للدعم الاستعماري الذي ينجدها كلما دعت الحاجة.
لافتٌ ما يقوله وما لا يقوله "ثوار" حيال سرديّة لا وجود فيها للشعب الفلسطيني ولا للدعم الاستعماري الذي ينجدها كلما دعت الحاجة.
في عام 1972، أخرج يوسف شاهين فيلمه "العصفور"، وتناول فيه السياق الذي أدّى إلى هزيمة حزيران/يونيو 1967، من خلال تحقيق يجريه صحفيّ حول عدم اكتمال بناء مصنع من مصانع القطاع العام بسبب سرقة آلاته وأدواته، ليكتشف أنَّ ثمة تنسيقًا في ذلك بين مسؤولين فاسدين في أجهزة الحكم ومجرم تطارده السلطة مع رجاله في صعيد مصر، بغية بيع الآلات والأدوات للقطاع الخاص.
ما يقوله الفيلم هو أنَّ النظام هُزِمَ من داخله قبل هزيمته العسكرية، وأنَّ ثمّة حلفًا للهزيمة يحول دون الانتصار على العدو الخارجي. وبالفعل، فإنَّ الأمر لم يتوقف عند الهزيمة، بل تطور بعد سنوات إلى صلح مخزٍ مع العدو سوف تكرره أنظمة عربية عديدة وتطيح بالمنطقة ولا تكاد تترك لها أيّ وزن.
بخلاف مقاربة شاهين، لعلّ محـمد حسنين هيكل، في كتابه الشهير "خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات"(1983)، كان أبرز، إن لم يكن أوّل من مثّل تلك الرؤية التي عزت زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى القدس في عام 1977 وما تلاها من صلح منفرد مع إسرائيل، إلى رجل فرد فقد عقله (أو وجده، بحسب روايات أخرى مماثلة في الجوهر ومباينة في الشكل)، لتهطل بعده الكتابات العربية في تخوين هذا الفرد (أو مديحه) والنَّبْش في تاريخه الشخصي وبنيته النفسية عمّا يفسّر جبنه (أو شجاعته)، من دون أن تحظى بنية البلد والمنطقة وتاريخها السياسي الاجتماعي الاقتصادي بأكثر من كونها خلفية بعيدة يصنعها ويديرها أفراد مثل هذا الفرد.
اليوم، لم تعد مقاربة شاهين لتلك المجموعة من الفاسدين والمجرمين الذين يحيطون بزعيم وطني نظيف، بالكافية لتفسير ما جرى ويجري من إدخال إسرائيل إلى القلوب والعقول وتحويلها إلى حليف ضد أعداء آخرين مختلقين، مثل إيران أو تركيا أو سواهما، فما بالك بمقاربة هيكل وما يتوسّله من "علم نفس فردي" سطحي.
كأنّ الثورة، أينما كانت، تبقى ثورة من دون أن تكون عدوةً لنظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري في فلسطين
كانت سيرورة الانتقال من العداء لإسرائيل (بوصفها تجسيد المشروع الاستعماري الصهيوني) إلى مصالحتها ثمّ التحالف معها، سيرورة تاريخية متدرّجة، ليست سياسية فحسب، بل اقتصادية واجتماعية وثقافية أيضًا، انتقلت فيها فئات وطبقات بأكملها، بل تحالفات طبقية برمّتها، من خندق العداء النسبي لإسرائيل إلى خندق الصلح معها، وذلك بانتقالها من وضعٍ كانت تجد فيه بعض المصلحة في ذاك العداء إلى وضعٍ لم تعد تجد لها فيه أي مصلحة في الصراع مع إسرائيل ورفض وجودها الاستعماري الاستيطاني.
بل اللافت للانتباه في العقود الثلاثة الأخيرة هو التحاق فئات غير قليلة من المثقفين، ذوي الماضي "اليساري" في الغالب، بتلك الفئات والطبقات والأنظمة، توفّر لها ما يحتاجه الحكّام من أقلام تنظّر للعملية، وتقدّم لها المفاهيم والمصطلحات اللازمة، وتنشر عليها التعمية والتزييف الضروريين، وتبرر استبدالها بعدو المنطقة الفعلي أعداء جددًا من جيرانها التاريخيين لا ينبغي تحويلهم إلى أعداء تاريخيين، كالعدو التاريخي إسرائيل، مهما يكن الخلاف والصراع معهم في لحظة.
على هذا الصعيد، تتّسم كتابات اللبناني حازم صاغية بأنّها كانت رائدة في اجتذاب ثُلَل من الذين طافوا مع طَوف العصر النيوليبرالي، بمقدماتها التي لا تكاد تخلو واحدة منها من مغالطة منطقية أو أكثر، إنّما أيضًا بادّعائها جذرية وجدّة زائفتين. ومن كتابات صاغية المغرضة عن "الهولوكوست"، إلى تبريره المتهافت تسويات الأنظمة العربية مع اسرائيل، بلغ الأمر بهذا "الرائد" حدّ بيع ما اعتبره "ثورةً" (في سوريا) إلى إسرائيل وبقية حلفائها من الضواري، كأنّ الثورة، أينما كانت، تبقى ثورة من دون أن تكون عدوةً لنظام الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري في فلسطين.
ينصح صاغية رفاقه من "الثوّار" السوريين في مقالة في صحيفة "الحياة"، 29 سبتمبر/ أيلول 2012، بألّا يترددوا في تقديم الجولان لإسرائيل على رؤوس الأشهاد إذا ما أرادوا أن تنتصر "ثورتهم"، ذلك أنَّ إسرائيل ورعاتها هما منبع انتصار الثورات ومصبّها، وليس نظامًا إمبراطوريًا كالأنظمة الامبراطوريّة التي يشكّل النظام السوري مثالًا عليها، بحسب تخييلات صاغية المنفلتة من أي ضابط معرفي. يقول:
"مسؤوليّة السوريّين اليوم هي إغراء العالم بالتدخّل، أيّ تدخّل كان، لوقف العفن وتماديه. فلا تكفي النيّات ولا ما قد يقال في الغرف المقفلة، بينما المطلوب كسر هذا الانسداد الجهنّميّ القاتل. وإذا كان العنصر المتعلّق بالجولان وكيفيّة استعادته واحدًا من الأسباب التي تُضعف إغراء العالم، وجب على الثورة أن يكون لها قولها الصريح والواضح والمطمئن في أمر استعادة الجولان وطيّ صفحة الحروب. فالأنظمة الامبراطوريّة، والنظام الأسديّ مصغّر عنها، لا تنكسر من دون مبادرات شجاعة كبرى، ومن غير تحوّلات في الوقائع كما في الأفكار، وأحيانًا في صورة الخرائط ذاتها".
هل سيخسر الفلسطينيون في ما حدث ويحدث ما يفوق خسارة الجولان؟
ولأنّ الحدث الذي بدأ في 7 أكتوبر 2023 بالغ الخطورة والأثر، فقد استقبله صاغية، في مقاله في "الشرق الأوسط" يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر، على نحو غير معهود منه، فجعل المقدمة المنطوية على المغالطات آخِرًا هذه المرة والعكس بالعكس. يبدأ الآخر الذي صار أولًا بالقول" "ليس هناك ما يغفر للإسرائيليّين ما فعلوه ويفعلونه بغزّة"، ليأتي الأول الذي صار آخِرًا فيقول: "أغلب الظنّ أنّ عقلين تضافرا لإيصالنا إلى هذه النتيجة: عقل النظام الإيرانيّ الذي يبيع بأهل غزّة ويشتري، وعقل حمساويّ تجتمع فيه خفّة الوعي الأصوليّ وقسوة الوعي التوتاليتاريّ. وبينما رحنا نحتفل على نحو صاخب بعمليّة كان يُستحسن أن نُدينها بعقولنا وضمائرنا وحسّنا بالمسؤوليّة، بل بإملاء من المصلحة الذاتيّة، هبط علينا التوحّش 'المتمدّن' لإسرائيل، فكانت حصيلة هذا التلاقي الثلاثيّ إنزال كارثة أكبر من نكبة 48 ونكسة 67 مجتمعتين".
أجل، أجل، هذا هو صاغية الذي نعرفه. لكن السؤال، هل سيخسر الفلسطينيون في ما حدث ويحدث ما يفوق خسارة الجولان التي اقترحها صاغية على "الثوّار السوريين"، متخطيًّا رأي أهل الجولان أنفسهم؟
للكاتب السوري ياسين الحاج صالح قصة أقلّ نجاحًا وحظًّا على هذا الطريق، لا سيما بما تنطوي عليه من التحولات المفاجئة المتعاكسة: تحوّلَ ياسين سريعًا مما كان ينصح به، قبل 2011 بقليل، من عدم خوض الصراع مع النظام في الميدان السياسي بل في الميدان الثقافي الذي يحوز مناهضو النظام تفوقًا فيه (بفضل وجود ياسين بينهم، ربما؟) إلى إصدار بيان في أوائل 2011، فحسب يحرّم فيه التفاوض مع النظام إلّا على تسليم السلطة!
وتحوّلَ خلال أشهر قليلة أيضًا من شتم كلّ من يشير إلى تجاوزات "الجيش الحرّ"، كمنظمة "هيومان رايتس ووتش"، إلى نقد خفيف لهذا الجيش الذي أدرك ياسين بعض الإدراك أنّه لا يحفل كثيرًا بما يكتبه كـ"حكيم" للثورة، حتى لو كان ذلك الزعم الغريب الذي مفاده أنّ "الثورة سياسة ذاتها"، بما ينطوي عليه من تبرير ضمني لكلّ ما يصدر عن ذلك الجيش الثوري المزعوم!
كما تحوّلَ كالصاروخ من شتم من قال باكرًا إنّ التدخّل الخارجي بات قائمًا، مثل هيثم منّاع، إلى هرش رأسه على التلفاز وهو يتكلّف عبارة "انكسار الإطار الوطني للصراع"! وتحوّلَ من اعتبار حركات الإسلام السياسي، لا سيما "جيش الإسلام" (زهران علوش)، "شعبًا محاصرًا" في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2013، إلى اتّهامه هؤلاء أنفسهم، يوم 9 كانون الأول/ديسمبر 2013، أي بعد أقلّ من أسبوعين، وبعد خروجه من سوريا، بأنّهم قوى أمر واقع وعصابات شبيهة بعصابات شيكاغو.
بوصول ياسين إلى أوروبا، أدرك أنَّ البضاعة الرائجة هناك، بعد تنصّل الأوروبيين من الإسلام السياسي كبديل للأنظمة، هي نقد رفاقه الإسلامويين القدامى والتبسّط مع إسرائيل. فهذان هما الموضوعان الأجدى تمويليًا ومعنويًا في معقل ياسين الأوروبي الجديد الذي يمكنك أن تبقي بعض أكاديمييه ومثقفيه قليلي الخبرة في جهل لك ولتحولاتك ما دمت تلقي إليهم ببعض النقد التعميمي السطحي للإسلام السياسي وببعض النظر "الطبيعي" إلى إسرائيل.
هل يصحّ تقديم سردية عن إسرائيل، لا وجود فيها للشعب الفلسطيني ولا للدعم الاستعماري الذي ينجدها كلما دعت الحاجة؟
في مقالة بعنوان "سوريا... من بلا تاريخ إلى بلا جغرافيا"، منشورة في "القدس العربي" في 15 أغسطس/آب 2022، وفي ضَرْبٍ من العبث بالأفكار الكبيرة، يقذف ياسين، من دون داعٍ ولا صواب، بإسرائيل، بخلاف سوريا وبقية بلدان الشرق الأوسط، كمثال بارز على "بلدان لها تاريخ"، بالمعنى الذي يشير فيه التاريخ إلى "تغير كبير في العالم، تحقّق للحرية مثلما فكر هيغل، أو إنشاء لأوضاع ومؤسسات وعقائد لم تكن موجودة من قبل".
فإسرائيل، عند ياسين، من البلدان التي "عملت بقوة على أن تكون شيئًا في العالم وقطعت أشواطًا مؤثّرة في ذلك". ذلك أنَّها، "بكل تأكيد"، على حدّ زعمه، "انبعاث لكيان يهودي سياسي بعد سنوات من أكبر كارثة حلت باليهود خلال ألفي عام من 'المنفى'، الهولوكست".
وفي سردية ياسين البطولية عن إسرائيل، لا وجود للشعب الفلسطيني ولا للدعم الاستعماري الذي يهبّ إلى نجدة إسرائيل مذعورًا كلما دعت الحاجة. وهي سردية تناقضُ كلَّ ما بذله الفلسطينيون والعرب، وحتى ذوو الضمير من المؤرّخين وغير المؤرّخين الإسرائيليين وسواهم، على طريق استخلاص السردية التاريخية النقيض التي ترى إلى مقاومة الشعب الفلسطيني البطولية، وترى إلى إسرائيل كصنيعة للاستعمار الغربي الحديث وقاعدة متقدمة له، من دون أن تقلل من "إنجازاتها".
بيد أنني أتوقّع تحولًا لياسين هنا أيضًا، لا سيما في هذه الأيام التي ستصعب فيها نسبة صنع التاريخ إلى إسرائيل من دون وصفه بالإجرام والتوحّش "الفظيع"، وسيصعب فيها إحلال "الغرب" من دماء هذا الصنع "الفظيع" للتاريخ، لا سيما إن كانت منقولاتك هذه الأيام من جورجيو أغامبن وحنا أرندت اللذين ــــ مهما أحلّا فلسفة الأخلاق محلّ الفهم المادي للتاريخ، ومهما أحالا الجماعات والظواهر المجتمعية إلى علم النفس الفردي ــــ يبقيان على قدر كبير من الضمير لا يسمح بتجاوز أو نسيان ما تفعله إسرائيل والغرب في هذه اللحظات.
لافت ما يكتبونه بحيث تبدو فلسطين وسواها من الأراضي التي تحتلها اسرائيل كأنَّها ليست أرضًا عربية بل إيرانية
تبقى لصاغية والحاج صالح ميزة بذل بعض العناية الكتابية بهذرهما، بسبب الخوف من، والجبن أمام، ماضٍ يساروي/قوموي/إسلاموي لعلّه لا يزال ينتابهما كالشبح وهو يرحل آفلًا أمام مغريات المردود المادي والمعنوي للإعلاء من شأن "الهولوكوست" على أيّ سردية أخرى تخصّ إسرائيل. وهذا ما لا نجده على أيّ نحو لدى بائع لروحه فاجر و"شجاع" مثل الطاهر بن جلون الذي يزايد في "لوبوان" اليمينية الفرنسية، في 13/10/ 2023، على وزير الدفاع الإسرائيلي والعنصريين الصهاينة والأوروبيين: "لا.. هؤلاء (يقصد "حماس") ليسوا حيوانات.. الحيوانات لم تكن لتفعل ما فعلوه". وذلك في الوقت الذي يعلن فيه كثير من الإسرائيليين في بيانات صريحة إنَّ هجمات "حماس" هي النتيجة، لا السبب، للتصعيد في غزّة، ويوضحون السياق القريب لذلك في ممارسات حكومة نتنياهو، ويدينون الاحتلال والفصل العنصري.
وهو أيضًا ما لا نجده لدى شاب مُستضعَف مسكين مثل عمر سليمان، اللاجئ السوري في فرنسا، الذي لم يَحْلُ له أن يروي كيف غرس فيه العرب "مشاعر العداء للسامية" و"كره اليهود"، ويستذكر، في "لوبوان" ذاتها، أنَّ أحد أجداده في العهد العثماني كان "تاجرًا يهوديًا من دمشق"، إلّا في يوم 14/10/2023، في خضم ردّ الفعل الفرنسي على عملية "طوفان الأقصى"، حين استدعت فرنسا، مثل سواها من الضواري الاستعماريين، كلّ ما في ترسانتها من العداء السافر للديمقراطية ومن عبيد المنزل الجاهزين لتلبية أي طلب من طلبات السيّد ولو كان ضد أبناء جلدتهم.
لافتٌ في هذا الصدد سلوك المعارضين السوريين الذين اعتلوا "الثورة" في دزينة السنوات الماضية، وبات أغلبهم في بلدان اللجوء، بسبب ومن دون سبب.
لافتٌ ما يقولونه وما يكتبونه، من اتّخاذهم مجازر الصهاينة ضد المدنيين الفلسطينيين حجّةً على المقاومة الفلسطينية؛ ومن تزوير الصراع العربي الإسرائيلي بحيث تبدو إسرائيل كأنها كانت تهاجم إيران منذ عام 1948 ثم 1967 و1978 و1982 و1996 و2006 إلخ، وتبدو فلسطين وسواها من الأراضي التي تحتلها اسرائيل كأنَّها ليست أرضًا عربية بل إيرانية؛ ومن انقلاب على "حماس" التي امتدحوها حين كانت تحفر الأنفاق لمسلحي "الإخوان المسلمين" وسواهم في سوريا، وباتت محط إدانتهم حين وقفت في وجه احتلال استيطاني عنصري مجرم.
لافتٌ، بالمثل، ما لا يقولونه وما لا يكتبونه، صامتين صمت المومياء، هم "الثوّار"، لا حيال عنصرية أنظمة البلدان التي هم فيها وتصهينها فحسب، بل أيضًا حيال قمعها السافر لأبسط الحريات والحقوق.
يبدو أنَّ "العم توم" بات مضطرًا لأن يُظهر ما كان يخفيه وراء جعجعته الثورية البعيدة من قبول بوضع "عبد المنزل" الخاضع، فما هو مطروح بالنسبة إلى سادته الجدد ليس أقلّ من مصير صنيعتهم الأهمّ والأعزّ: اسرائيل.