انتهت حلول الأرض، الأمر متروك للضحك

كنتُ أشعر بحيرة هائلة، حين أدرك آخر المصائب في سوريا من خلال النكات التي تُكتب عنها، لكنّي أرى في تلك المحاولات، حتى اليائسة منها، للإضحاك والسخرية، شريان حياة يقاومُ كي لا يتوقّف عن النبض.

نضحك معًا كما لو كنّا في حلم تغمر الشمس كلّ مساماته. لا نعلم شيئًا عمّا حدث ويحدث. وكأنّ هذه اللحظة تساوي أبدية كاملة، لا ينقصها سوى صوت لويس آرمسترونغ يغني في الخلفية "What a Wonderful World".

يبدأ نهار كهذا برسالتين مختصرتين أرسلهما إلى صديقي: "وينك؟... يلا جاية". قد تكون هذه محادثة غير معتادة بالنسبة لي، كشخص يفضّل أن يبدأ يومه بالعمل منعزلًا، لكنها البداية الحتمية لنهار يبدأ باشتمام رائحة حريق جديد، يلتهم أجزاءً مما تبقى فينا.

حكاية الضحك والألم

نتوافد إلى طاولة المقهى واحدًا تلو الآخر، ونشعل سجائرنا واحدة تلو الأخرى. نتحاشى الاستغراق في ما يحدث، فنكتفي بشكوى على عجل، ونستجدي الوسائل الممكنة لتناول هموم أصغر وأطراف حديث أقل وطأةً. وقد تكون حاجتنا إلى هذه الاجتماعات غير الرسمية وغير الهادفة مشتركة، علّنا نمسك سوية بطوق نجاتنا الأخير الذي لن نتمكن من القبض عليه بمفردنا. لا بد من بعض الصحبة إذًا.

طوق النجاة ذاك لا يرتبط مباشرةً بالانهيار النقديّ ولا بالعقوبات الاقتصادية أو بمستقبل سوريا، بل هو مجرد شق سبيل إلى الضحك في حاضر يصعب علينا، مهما طال، أن نتخيله أبديًا. نجتمع كلنا حول تلك الطاولة، نُلقي الأحداث التي تثقل علينا الحياة جانبًا، ونستعيد التفاصيل اليومية التي يُمكننا تحويلها إلى طُرَف، ثم ننبش في الذكريات الأقدم. وحكايةً تلو الأخرى، تبدأ سلسلة الاعتراف بحماقات، ربما لم نرتكب جميعها. لكننا نجد أننا بحاجة ماسّة إلى إحيائها أو اختراعها بسرعة.

الضحك يهدف إلى خلق الروابط الاجتماعية وتعميقها. وهو اليوم من أهم أدوات مواجهة الأخطار، كما كان في السابق بالنسبة لأسلافنا[i]. نحن، الآن، نستعيد هذه الوظيفة المنسيّة للضحك فحسب. ومثلما كان الضحك ضروريًا لنجاة الأسلاف من الأخطار البرية، فهو ضروريّ لنجاتنا في القرن الحاديّ والعشرين. ففي الأيام التي تحلّ حاملةً ثقلًا إضافيًا، نحاول قلب أصل الضحك كشكل من اللهاث، إلى استراحة من اللهاث اليوميّ القلق. هكذا، يتعدى الضحك طابعه الأصليّ كتعبير بدائيّ، ويتحوّل إلى طقس جماعيّ نحاول فيه البحث عن آخرَ يشترك معنا في أشياء عديدة، بينها الضحك والبراعة في الإضحاك. 

في حين يأخذ الضحك طابعًا شبيهًا بالنسيان، فإنّ السخرية تُستحضَر كفعل تذكّر، فيه تشويه متعمّد للحقائق، بهدف تجريدها من قسوتها

قرأتُ اقتباسًا لتشارلي شابلن، يقول فيه: "لتضحك بحق، يجب أن تكون قادرًا على تحمّل ألمك واللعب به". أشك أنّ تشابلين بنى كلامه على دراسات علمية، لكنّ العلماء بالفعل يربطون بين الضحك وإنتاج الإندروفينات التي تساعد على تحمّل الألم[ii] . الضحك، بهذا المعنى، أشبه بمخدر ننتجه ونستهلكه بأنفسنا، لنسكت ذاك الألم الصاخب في رؤوسنا.

أرض السخرية، وربما الأمل

منذ سنوات، صرتُ أتصوّر الانهيار مسارًا حلزونيًا إلى الأسفل. وقد اختبرنا مرات عديدة انهيارات مضاعفة في نقطة ما من هذا المسار المتخيّل. ومع كل انهيار مضاعف جديد، يغمر مواقع التواصل الاجتماعي سيلٌ من مزيج غريب، يجمع بين منشورات يشوبها حزن وشفقة من خارج الحدود في غالبها، ومحاولات إضحاك وسخرية (والكثير منها لا تتعدى كونها محاولات يائسة) من داخل هذه الحدود.

كنتُ أشعر بحيرة هائلة في السابق، وربما ببعض الإحباط، حين أدرك آخر المصائب من خلال النكات التي تُكتب عنها، من دون أن أجد في ذاك الفضاء الافتراضيّ الخبر الأصليّ إلا بعد بحث. لكنّي أرى في تلك المحاولات، حتى اليائسة منها، للإضحاك والسخرية، شريان حياة يقاومُ كي لا يتوقّف عن النبض. إنها أشبه بمحاولة شخص أن يؤكّد لنفسه أنه حيّ، وأنه قادر على العيش بسعادة، ولو للحظة خاطفة.

وفي حين يأخذ الضحك طابعًا شبيهًا بالنسيان، فإنّ السخرية ـــ كشكل من أشكال العداء المقنّع أو كمحاولة مستترة لإخفاء مشاعر الغضب أو الخوف أو الأذى[iii] ــــ تُستحضَر كفعل تذكّر، فيه تشويه متعمّد للحقائق، بهدف تجريدها من قسوتها، وتحقيق انتصارات صغيرة على تلك المشاعر الهائلة التي لا تغادرنا في أحيانٍ كثيرة.

وإن كانت السخرية محطّ انتقادات عديدة في عصر "الصوابية السياسية" وإقامة محميات بشرية لـ"الآخر" في كل مكان، فإنها تظل من أدوات التعبير النادرة ــــ أو التنقيب عن فسحة ما للتعبير فحسب ــــ حين تضيق كل المساحات المتاحة، ومعها القدرة على تحطيم أصنام تمثلت أمامنا ماديةً وملموسةً، ظنّ مقيموها أننا سنهابها طيلة أعمارنا.

وبالتأكيد، فإن منسوب السخرية يرتفع كلما زادت المرارة، ويحتل مساحات أوسع من حياتنا. وإن كان الضحك طوق نجاة، فإن السخرية حلمٌ في التغيير مؤجّل، واستمرارٌ لأمل دفين، وتذكيرٌ لأنفسنا بأننا نعرف أسماء بعض من أشعلوا الحرائق، وبأنّ وجوههم حُفرت في ذاكرتنا.

عند لحظة ما، يبدأ الحلم في التلاشي، وينتهي فيما يمضي كل منّا في طريقه. ندرك في تلك البرهة أن الغد سيكون أكثر قسوةً، وأنه يتطلّب منا العمل بجد أكبر لنتمكن من تجاوزه، ولنتمكّن من الضحك مرة أخرى. 

 

[i] The evolutionary origins of laughter are rooted more in survival than enjoyment, Jordan Raine, The Conversation: https://theconversation.com/the-evolutionary-origins-of-laughter-are-rooted-more-in-survival-than-enjoyment-57750

[ii] Laugh so you don't cry: how laughing kills the pain, SCIENTIFIC AMERICAN:

https://blogs.scientificamerican.com/scicurious-brain/laugh-so-you-dont-cry-how-laughing-kills-the-pain/

[iii] Sarcasm, Linda and Charlie Bloom, Psychology Today:

https://www.psychologytoday.com/us/blog/stronger-the-broken-places/201907/sarcasm

فلسطين: "البطل بألف وجه"

يتحوّل بعض الناجين من أطفال غزة في هذا الفضاء المفتوح إلى رواةٍ للحكايات. محمد الدرّة، هذه المرة، ليس..

تيم الكردي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة