فلسطين: "البطل بألف وجه"

يتحوّل بعض الناجين من أطفال غزة في هذا الفضاء المفتوح إلى رواةٍ للحكايات. محمد الدرّة، هذه المرة، ليس وحيدًا، والحكاية التي بدأت بصورته ساكنًا في أحضان والده، تكاثرت حكايات على ألسنة لا حصر لها.

لم أكن كثير الكلام أو السؤال. وفي سنواتي الأولى قبل أن أتعلّم قراءة الحروف، كنتُ أجلس لساعات طويلة أمام شاشة التلفاز أشاهد القناة السورية (الخيار الوحيد تقريبًا آنذاك)، التي لا تخصص سوى ساعتين للأطفال.

كان ثمّة مشهد يتكرر مرةً تلو الأخرى، خلف ما ظننته برميلًا. هناك كانت تبدأ الحكاية وتنتهي. حكاية طفل كنت أتصوّره في مثل سني، يختبئ خلف رجل يلوّح بيمناه، وهو يفتح فمه صارخًا أو باكيًا. لم تكن الصورة واضحة بما يكفي. كان فيها كلام كثير يتوارى خلف الرصاص من دون أن أدرك منه عبارة واحدة. ثمّ، cut. يضع الصغير كفًا على وجهه، و"يغفو" عميقًا في حضن الكبير فيما ينازع الموت. لم يكن لديّ سوى سؤال وحيد: أين يحدث هذا؟

"في فلسطين"، قالوا لي! أما اسم من استُشهد فعرفته وحدي، "محمد الدرّة".  بدا الكبير في المشهد كمن يلفظ أنفاسه ــــ قبل أن أعرف هذا التعبير أو أدرك كنهه حقًا ــــ فيما استكان الصغير في حضنه، كما لو كان يخبّئ عينيه من روع ما حدث. لم يكن يليق بمشهد كهذا سوى أرحم أنواع الصمت. لكنّ الرصاص لم يتوقف فيه قط.

كان هذا المشهد كفيلًا بجعلي أدرك أن أفلام الكرتون كاذبة. ففي الحياة لا ينتهي الحال بالأبطال مبتسمين أمام الشاشة، فيما يمضون نحو شمس المغيب.

وجه ثانٍ

لم أكن أعرف آنذاك أن هناك بقعةً من الأرض تُسمى غزة حصلت فيها هذه الواقعة. كانت فلسطين فحسب. وظلت حكاية محمد الدرّة، في رأسي، تفتقر إلى ما يجعلها منطقية على نحوٍ تام. بدا الجسدان فيها يتمازجان ويذوبان حتى يغدوان صورة أيقونية.

"يُقتل الأطفال في وضح النهار على الأرصفة في مكان قريب"، هذا ما همست الصورة به في أذني، ثم صمتت تمامًا، على عكس صوت الرصاص المصاحب لها. ولأكثر من عقدين، بقيت هذه حكاية شخصين استشهدا معًا. لاحقًا، رأيت جمال الدرّة، والد محمد، يتحدث في ذكرى استشهاد ولده عن تلك التفاصيل التي لم أعرف عنها شيئًا في ما سبق.

قال الأب لابنه: "متخفش"، فردّ محمد: "إنت متخفش، أنا مش خايف". وإلى مستشفى "الشفاء"، الذي اقتحمه الاحتلال واعتقل مديره بعد 7 أكتوبر الأخير، نُقِل الأب وابنه. ما زال الأب، الذي ودّع شقيقيه قبل أسابيع، يتحسّر لأنه لم يحظ بفرصة وداع ابنه بعد مرور 23 عامًا.

إذًا، الكبير الذي ظننته شهيدًا كان والدًا، وما زال حيًا يحكي. وذاك الصغير الذي خبأ وجهه، هو شهيد استغرق في نوم دافئ كالدماء. وما رأيته برميلًا، كان ساترًا اسمنتيًا.

يروي الصحفي طلال أبو رحمة، مصوّر هذا المشهد، أن ما رأيته في بضع ثوانٍ عام 2000 استمر لأكثر من عشر دقائق. اكتشفت أيضًا بعد هذه السنوات أن ما حدث كان في جنوبي غزة، الذي تقصفه قوات الاحتلال كلّ يوم بعدما دفعت معظم سكان شمال القطاع ووسطه للجوء إليه باعتباره "بقعة آمنة".

وجهٌ ثالث: من متفرجين إلى متورطين

اليوم، لم يعد أحد من الأولاد يجلس أمام شاشة التلفاز ينتظر. فالشاشات الرقمية في كل مكان، حتى تكاد تشكّل امتدادًا لذواتهم. دع عنك إدراكهم لهذا العالم الذي "يصغر" ويغدو أكثر فتكًا يومًا تلو آخر. العالم بأكمله أمامهم، والخوارزميات المربكة قد تقودهم إلى جولة من المشاهد المتشابهة بفعل "لمسة خاطئة" حتى.  

في هذه الشاشات، لا تذوب أجساد ضحايا الاحتلال في بعضها، ولا تغيب ملامحهم، بل تَمثُل في قمة حيويتها. يعرفون أسماء بعض حامليها وحكاياتهم. نرى أنفسنا أمام نظراء لا حصر لهم، تفصلنا عنهم مئات الكيلومترات ومحيطات من الألم. نرى صورهم تغيب لتعود وتصفعنا، مرة تلو الأخرى، بكل ما نكتنزه من عجز.

شعرت بأنّي لم أفهم ما أقرأه جيدًا وأنا أرى صورة الشباب الذين اقتحموا إحدى المدرعات وتكاثروا داخلها وفوقها، يضحكون ملأ السماء

لا نرى صورًا أو مشاهد أيقونية بالضرورة، بل عبارات حيّة تسكن في رؤوسنا وتدوّي. ولا يقتصر نقل الصورة على الصحافيين الشجعان، بل تحاصر الكاميرات معظم الأحداث على امتداد سيرورتها الزمنية، لتضفي بعدًا أكثر إلفةً على كل مشهد. وهذه المرة، لا ننتظر أعوامًا طويلة حتى ندرك أن لكل حكاية فصولًا عديدة.

وجهٌ لم يكتمل

نُسجت مخططات خبيثة، كما نُسجت أحلام لا حصر لها، حول قضية فلسطين على مر السنين. حاول كثيرون إقناعنا بأنها عبء علينا التخلص من وزره في أسرع وقت. قيل إنه لا بد أن نقبل بوجود الكيان المحتل، وأن نؤمن عميقًا باستحالة تحرير البلاد كي نمضي قدمًا نحو مستقبل مشرق تمامًا، حتى بات البعض يتندر على لا منطقية حلم ما بالقول: "شو بدك تروح تحرر فلسطين؟".

ولهذا، ربما، فإن ما حدث في 7 أكتوبر كان صادمًا للكثير منا. أذكر جيدًا مشاعري في تلك اللحظات. شعرت بأنّي لم أفهم المشهد جيدًا وأنا أرى صورة الشباب الذين اقتحموا إحدى المدرعات، وتكاثروا داخلها وفوقها، يضحكون ملء السماء.

أستعيد تلك الصورة التي جعلت الأمل يفيض فيّ بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر على بداية الحرب. أتخيّل تتمات حكايات كل وجه رأيته يضحك فوق تلك المدرعة وحولها. هل استطاعت الكاميرات ــــ حتى في عصرنا هذا ــــ توثيق صورهم اللاحقة؟ أفكّر، ويأتيني الجواب كامنًا في كلام الدكتور غسان أبو ستّة: "لا مكان في الكون أكثر وحشةً من جانب سرير طفل مصاب لم يبقَ له عائلة تعتني به".

أستوعب، مع تخطي عدد ضحايا الاحتلال أربعة وعشرين ألفًا، أن كثيرًا من الأطفال لم يبقَ لهم أب يظهر على الشاشات ليروي تفاصيل الحكاية ونهايتها. لكنّي أدرك أنّ بعض الناجين من الأطفال أخذوا يتحوّلون، في هذا الفضاء المفتوح الذي لا يحتاج إلى معدات، إلى رواة.

لا تفارق أصابع نسخة صغيرة مني الشاشة، ترى نظراءها من الأطفال الناجين ــــ حتى الآن ــــ يروون بأنفسهم الحكاية. تتراكم المشاهد في رأسي، ويترسخ الوعي على نحوٍ أكثر قسوة، فتغدو الدمى التي تتخذ هيئة الجنود والبنادق البلاستيكية والطائرات الورقية نذرًا لما هو قادم.

يصبح المشهد بعد انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر قاتمًا بالأحمر. لكنّ بعض ما قد نلجأ إليه لنواسي أنفسنا ــــ نحن الذين لا نملك أن نفعل الكثير ــــ يتمثل في أن محمد الدرّة هذه المرة ليس وحيدًا، والحكاية التي بدأت بصورته ساكنًا في أحضان والده، تكاثرت حكايات على ألسنة لا حصر لها.

لن نحتاج أن نحكي كثيرًا، فالمشاهد تتكشف أمام أعين الملايين. كل هذا يعيد تشكيل صور آلاف مثل "محمد الدرة". هذه المرة، الحكاية كاملة، وفيها من التفاصيل ما هو أبشع من أن تستوعب أذهاننا، ومن الكلام، الذي قيل ولم يُقال، ما سنسعى إلى أن يدوّي أبدًا.

 


[i] البطل بألف وجه (The Hero with a Thousand Faces): عنوان كتاب لجوزيف كامبل، يناقش فيه نظريته حول البنية الأسطورية لرحلة البطل في مختلف أساطير العالم.

انتهت حلول الأرض، الأمر متروك للضحك

كنتُ أشعر بحيرة هائلة، حين أدرك آخر المصائب في سوريا من خلال النكات التي تُكتب عنها، لكنّي أرى في تلك..

تيم الكردي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة