أجسادُنا، وما يشحنُها في طوفانها الكبير

تجهل أخلاقُ "الطاغوتِ (الحداثيّ) المتوحّش" مدرَكاتِ المقاتل الذي اخترق السياجَ في غزّة، وصلاتِه الشعورية. لا تقرأ أخلاقُ الطاغوتِ أخلاقَ من هم خلف السياج قبل اختراقه.

وَنَجْعلَهم أئمّةً ونجعلَهُم الوارثين (سورة القصص:5)

يطفو على سطح عمليّة "طوفان الأقصى"، التي أطلقتها حركة "حماس" كلامٌ جمٌّ يطال مجمل المستويات التي من خلالها يمكن تأويل الحديث، وقراءته في أبعاده. نتحدث عن كلام يُغرق المجال العام، ويحدثُ في السياسة والثقافة، وفي طرائق التعبير، وفي البنى الاجتماعية للبلدانِ التي لها نصيب من الحدثِ، قلّ أو كثر.

في العمق، اخترقتْ هذه العمليةُ المظفّرةُ من لحظتها الأولى عبر الشاشات، من خلالِ أفعالِ وأقوالِ المقاومين العربَ في غزة، الجسدَ العربيّ الأوسع بمعناه الماديّ المباشر.

لا نتحدث في هذا المستوى، بعدُ، عن مجالات الوعي أو حتى عن أهمية المنجزِ وما يترتب عليه، بل عن محايثةٍ متخيّلةٍ للفردِ مواكبًا خروجًا دافقًا منفجرًا من سجن ــــ مدينة، يُعدّ في وقتنا هذا المجالَ الحيّ الذي على أرضه تَبرز وطأةُ السبات؛ سباتِ الشيء الذي يختبرهُ أناسٌ محيطون، من لسان واحد جامع، لا يعدّون ولا يُحصَون، ممتدٍّ في الزمان، ومحفور في الوجوه والتعابير، وعند كلّ سفكٍ للدم.

هل نسمّي هذا السباتَ ــــ الشبحَ أمّةً؟ هل نسميه وعيًا جامعًا من مستويات متراكبة؟

حسنٌ، اخترقت هذه العملية الأذهان والأجساد. وأول الصلة حاسّة السمع. يصرخُ الحرُّ الذي اخترق السياج، وحروفُ قوْلته عالقة في كل مادة محيطة بالحدث: "اللهمّ استخدمنا ولا تستبدلنا".

يدفق المقاتل، الذي أنتجت ظاهرَهُ الظروف الموضوعية والمادية، في استثمار الجهد ومراكمة التنظيم والخبرة

في الظاهر، تحيل هذه القولةُ إلى ما يعرفه الجميع، ويستخدمونه في كل نقاش أو جدلٍ سياسيّ، أنّ المقاتل "الإسلاميّ" ناطق بطبيعة الحال عن أيديولوجيته الإسلامويّة، مغفلين صلاتٍ معقّدة غير قابلة للكشف من وهلة أولى، في ما يخص محركات القول والفعل في لحظة الانفجار والدفق.

يدفق المقاتل، الذي أنتجت ظاهرَهُ الظروف الموضوعية والمادية، في استثمار الجهد ومراكمة التنظيم والخبرة، ويبرز معه مستقبلٌ جليّ أمامَه في تلك اللحظة جلاءَ الشمس في رابعة النهار. وأعني هنا اللحظة المغروسة في الآتي، والتي بلغته بزخم من ميراث نبويّ عَقَديٍّ غيبيّ، تتقاطع عنده، في مستويات أدنى، تتصل بالهوية الجامعةِ، كلّ صرخة أو حُرْقة حدثت ثمّ دونتْ أو تُنوقلت من أكثر من عشرة قرون.

إذن، يُنتج الإلهُ الذي يأخذ بتلابيب المقاتل الغزّيّ لحظةَ الظفر المستقبليّة، موتًا وإحياءً في آن؛ موتَ/شهادةَ الفدائيّ وأترابِه، وإحياءَ كلّ خيطٍ موصول إلى نقطة من الميراثِ الدائريّ المشحونِ بالغيب، والمتشبث بالمكان الموعود، وهو كل فلسطين "الأرض المقدسة"، وأيضًا بالشخص الموعود. ع

عند هذا المستوى، تغدو الهوياتُ المتوتّرة، التي تبرز مأزومةً في كل حين، شفيفةً، مفسحةً هوامش ضخمة يملؤها معجمٌ نفسيّ لغويّ فصيحٌ، عصيّ على الإحاطة، من الرغبة والهدم والمغامرة التي لطالما كانت خيالًا مشروعًا يجذب اللحظة إلى موطن غرسِها المحقّق. وعند هذا اللحظة أيضًا، لحظة المقاتلِ، تغدو ساذجةً كلّ أدلجة تحصر النقاش في بعده السياسيّ المباشر، وفي ما سوف تكسبه اليدُ من كسر مرحليٌّ أو ربما دائم للاحتلال.

يرجو المقاتل الغزّيّ اللهَ أن يستخدمه في الفتح، ولكنه يُنتج إلهَه القاهرَ، وآيتَه المبينةَ، وأخلاقه الحرّة القديمة البسيطة

اخترق المقاتل السياج. "هبت رياح جنّته". على هذا النحو، أضيئتْ له سبيلٌ إلى أرضه التي سُلبت من جدّه المباشر، وربما جده منذ ما قبل "حطّين". في أحد بيوت الكيبوتسات، مع أمٍّ صهيونية وولديها، يستأذنُ المقاتل "الآسرُ"، في ذروةِ القتال والكريهة، أسيرته في فاكهة يأكلها! هذا ما نقلته الأمُّ بالحرف.

هذا فعل خرافيّ وحقيقيٌّ في آن، وإيمانيّ رسوليٌّ بلا شكّ! بل هو إدراكٌ ثاقب وبسيط أبرزته إلى الحيز الموضوعي اللحظة المنزوعة لا محالة من سكينة الحق، من دائرة الغيب المشحون بالكتاب، ومن ثمّ بتخيلاتُ الكتاب التي جُبل بها ناس الكتاب الموعودون بأن يصيروا أئمةً وارثينَ، على مظلوميتهم، بالأرض.    

يرجو المقاتل الغزّيّ اللهَ أن يستخدمه في الفتحِ. ولكنه، في كل لحظة، ومع كل نفس يخرج من فِيهِ، مستضعَفًا في أرضهِ، يُنتج هوَ إلهَه القاهرَ، وآيتَه المبينةَ، وأخلاقه الحرّة القديمة البسيطة، الموصولة إلى موته المحقق في الوعد أو عيشه الحرِّ على "الطريقة". 

تجهل أخلاقُ "الطاغوتِ (الحداثيّ في وجه من وجوهه) المتوحّش" (أجسادٌ راقصةٌ مسيّجةٌ بما أنتجه سياقها المعاصرُ من أسيجة) مدرَكاتِ المقاتل الذي اخترق السياجَ، وصلاتِه الشعوريةَ التي قلبتْ للـ"العالمِ" ظهرَ المِجنّ. إنها الأخلاق التي ــــ وهي ترطن محاولة تفسير الآخرين وقولبتَهم وموقعتَهم في مجال قرائيّ مرئيّ ــــ تُمعن في إنتاج أسيجةٍ جديدة هي مادة الاختراق في كلّ جيل.

لا تقرأ أخلاقُ الطاغوتِ أخلاقَ من هم خلف السياج قبل اختراقه. تجهلُ انفجاراتهم، ورعبَهم المبثوث، وقدرتهم المستبطنَة التي هي معرفة مؤجلة، يُنتجها متخيّلٌ واحد بأبعاد لا تحصى في النفس والتاريخ والاجتماع؛ متخيَّلٌ يبقى بضّا طريّا على الدوام في صدر المقاتل.

تجهل أخلاق الطاغوت المتوحّش هؤلاءِ. إنها تعدمهم بأسيجتها التي هي مواضيع مؤسّسةُ للّحظة المظفّرة الآتيةِ، لا محالةَ، منَ الغدِ.

معاوية والمائة الرماديّة الأولى

تختلف طبيعة معرفتنا بمعاوية، بالضرورة، عن شخصيات الحقبة العباسية وما بعدها. فالحقبة الأموية، وتحديدًا..

حسن نصور
أوهامُ المغامسيِّ... في سبيل مذهبٍ جديد

هل يوجد دوافع سياسية تكمن وراء تصريح الداعية صالح المغامسي بشأن "تأسيس مذهب فقهي إسلامي جديد"؟ أم هي..

حسن نصور
تَوباتُ المحتلّين، وما تُحيلُ إليه

الخطير في طرائق التلقي الاحتفائِي بـ"التوبات الإشهارية"، كتلك التي أعلن فيها جندي إسرائيلي إسلامه، أنها..

حسن نصور

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة