أوهامُ المغامسيِّ... في سبيل مذهبٍ جديد

هل يوجد دوافع سياسية تكمن وراء تصريح الداعية صالح المغامسي بشأن "تأسيس مذهب فقهي إسلامي جديد"؟ أم هي مجرد رغبة بإثارة الجدل؟ وكيف يرتبط هذا الأمر بتاريخ تشكّل المذاهب الفقهية؟

لا تَشيعُ المذاهبُ الفقهية الدينيّة، فيُكتب لها الدوامُ، من نزوعٍ فرديّ إصلاحيّ. بل إنّ تشكّل المذهب الفقهي هو في العمقِ عمليّة جمعيّة، تاريخيّة اجتماعية، لا تستقيمُ بمعزل عن مؤثرات سياسيّة. وتكفي نظرة موسعة على تاريخ تبلور المذاهب الإسلامية، أصولًا وفروعًا، في القرنين الهجريين الثالث والرابع الهجري، حتى يفطن المرءُ إلى مثلِ هذه البديهة.

لأجل ذلك، فإنّ الداعية السعوديّ صالح المغامسيّ، إمامُ مسجد قُباء في المدينة المنورة سابقًا، إذ يثير الجدلُ راجيًا "من الله أن ينشئ على يديه مذهبًا جديدًا"، قد غفل عن تلك البديهة، إلا أنْ يكون قاصدًا في الحقيقة - وكما أورد - سبيل التجديد والإصلاح الفقهيين على هدي كثيرين من قبله. فـ"مراجعةُ ما قد سلف" - على حدّ قوله - ليست بدعًا أو اختراعًا غير مسبوق، والقول إن "السند قد طغى على الأحاديث، بدخول أحاديث آحاد من الصعب نسبتها للنبيّ"، وإن كان واقعًا، فهو موافق لما أورده فقهاءُ كثيرٌ، سابقون ومعاصرون، فضلًا عن نقاد ومفكّرين.

وإلى ذلك، فإنّ جعفرًا الصادق (80-148هـ) أو محمّد بن إدريس الشافعيّ (150- 204هـ) صاحب "الأمّ" و"الرسالة"، أو مالك بن أنس (93 - 179هـ) صاحب "الموطّأ"، وسواهم، ما كان في خلدهم أنهم يقصدون إلى تكريس مذاهب فقهية بالمعنى الشائع، يسوسون بها الناس، بل إن المذاهب التي نسبتْ إليهم ليست غير جهد تأليفيّ ونقديّ هائل، من تلامذة ومريدين وخصومٍ حتى، كُرّسَ وجرى التواضع عليه طوال قرون من التعليق وإنشاء الهوامش والشروح. يرفد ذلك كلّه عواملُ ومؤثرات داخلية وخارجية لا تُحصَر، ويضيق مجال هذا النصّ عن تفصيلها.

قولَ المغامسيّ، قد يكون مندرجًا في سياق مجاراة جوّ عامٍّ نتج من نهج السلطة الجديدِ في بلاد الحرمين

يتيح الفضاء الديني الذي يسبح فيه المغامسيّ مثلَ هذه الطروح. إنه فضاء سلفيّ بسيط متخفّف من وطأة المذاهب الفقهية السنية الرئيسة، ولا سيما الحنفية (نسبة إلى أبي حنيفة النعمان، 80 - 150هـ) والشافعية، ومستندٌ إلى أصول محمد بن عبد الوهاب، بواجب الالتزام بنص السنة الصحيحة فقط، مع تهميش أدوات فقهية عقلية كانت أساسًا في تكريس تلك المذاهب.

على أن قولَ المغامسيّ، قد يكون مندرجًا في سياق مجاراة جوّ عامٍّ نتج من نهج السلطة الجديدِ في بلاد الحرمين؛ نهج يسعى إلى تكريس "انفتاح" أو تصدير صورة مغايرة إلى الخارج عن المجتمع الإسلامي الأمّ، تخففُ من وطأة عقود من "التشدد" و"الانغلاق". على أن هذا النهج ليس مأمون العواقب، إذ إن الانفتاح لا يحسنُ "سلقًا" أو ربما غبَّ أمر سياسيّ، بل يؤسَّس له بالتؤدة والعمل الجديّ على تكريس نظرية حكمٍ تراعي حاجات المجتمع الأساسيّة وخصوصياته الثقافية المتعدّدة. وهذا ما لا يَفطن إليه الدعاةُ جلّ الدعاةِ الإسلاميّين عمومًا، إذ تراهم يرون إلى الفقه نصوصًا متعالية تخدم الشريعة المقدسة بمعزل عما يدور، في البنية التحتية، من الاجتماع الشائك المعاصر.

يستبطنُ رجاءُ المغامسيّ إنشاءَ مذهب فقهي جديد، مرة أخرى، إشارةً إلى معضلة مصدرٍ من مصادر التشريع الإسلامي، ونعني "الحديث" النبوي. وهذه المعضلة هي التي تدفع كتبةً ورجالَ دين محسوبين على "التجديد"، ضمن موجاتٍ متكررة، إلى الحضّ على تفحّص هذا المصدرِ، وضوابطِ الأخذ به، وكيفياته. فالمغامسيّ ليس سبّاقا إذ يقول بطغيان السند وأحاديث الآحاد، فالشائع أن تلك الأحاديث ظنيّة الثبوت والدلالة، لا قطعية، وذلك يشبه بحدودٍ الدعوة إلى الأخذ فقط بما هو متواتر من حيث السند، وهذا، بدوره، يقود إلى معضلة فقهية خطيرة هي لزوم تنحية ميراث هائل من التراث، إذ إن المتواترَ قليلٌ والجلُّ آحادٌ.

خلاصةُ القول إنّ الدعوة إلى مذهب جديد، في الظاهر، وهمٌ ساذج؛ إذ هي دعوة فاقدة أهليتَّها التاريخية، من جانبٍ، ومن جانب آخر، فإنها دعوة من شأنها أن تثير - وقد فعلت - هذا السجال الذي يعكس في كل مرة معضلات ثقافية قديمة/محدثة، في المجتمعات العربية التي يُرشد الإسلام دساتيرها أو يُعدّ الإسلام فيها مصدرًا من مصادر التشريع والحكم. فالمذهب المرجوّ، أيًّـا يكن اسمَه، لا يعدو في أحسن الأحوال كونه مجموعة أقوال في الفقه والدين، خاض فيها كثيرون منذ مطالع النهضة حتى اليوم. ويتأتى وجه إثارتها فقط من زاوية الرابط الوثيق بين الدين والسلطة في بلادنا، إذ لا تستقيم هذه السلطة من دون قدرتها على تجيير المجال العام، ومنه شؤون رجال الدين والدعاة والفقهاء، لصالحها. وبهذا نفهم أيضًا الأزمة التي تبرز إلى الإعلام، بين الفينة والأخرى، بين مشيخة الأزهر والرئاسة في مصر، وذلك شأن يطول.

معاوية والمائة الرماديّة الأولى

تختلف طبيعة معرفتنا بمعاوية، بالضرورة، عن شخصيات الحقبة العباسية وما بعدها. فالحقبة الأموية، وتحديدًا..

حسن نصور
أجسادُنا، وما يشحنُها في طوفانها الكبير

تجهل أخلاقُ "الطاغوتِ (الحداثيّ) المتوحّش" مدرَكاتِ المقاتل الذي اخترق السياجَ في غزّة، وصلاتِه..

حسن نصور
تَوباتُ المحتلّين، وما تُحيلُ إليه

الخطير في طرائق التلقي الاحتفائِي بـ"التوبات الإشهارية"، كتلك التي أعلن فيها جندي إسرائيلي إسلامه، أنها..

حسن نصور

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة