تَوباتُ المحتلّين، وما تُحيلُ إليه

الخطير في طرائق التلقي الاحتفائِي بـ"التوبات الإشهارية"، كتلك التي أعلن فيها جندي إسرائيلي إسلامه، أنها تُخصِّبُ كل سردية تسعى إلى حصر الصراع في حصنه الديني.

تلا الجنديُّ الصهيونيُّ قبل أيام الشهادتين، عبر قناة "اليوتيوبر" الشهير محمد علي، أحد الدعاةِ الجدد. في الظاهر، أبرزَ هذا الجندي، بعد نقاش سياسي/ديني، بالإنكليزية، دام نحو نصف ساعة، مُشكلًا نفسيًا (اكتئاب ما بعد الصدمة) يتصل بانعدام الحدود الدنيا من أخلاقيات جيش الاحتلال الذي خدم في صفوفه قبل بضع سنوات، حيث شهدَ ما روّعه. 

توبتُه، في حدّ قوله، سعي للطمأنينة النفسيّة في سبيل المغفرةِ. على أن هذه الفعل اندرج توًّا، وفي خضم حرب "طوفان الأقصى"، في سياق النقاشات الفكرية القديمة الجديدة التي تطرحها الحربُ الجارية في ما خص جذور الصراع، بين ما هو ديني عقَدي خلاصيّ محضٌ، وما هو وطنيّ حقوقيّ متّصل بالمسألة الصهيونية.

أزاحَ الدعاةُ ومجتمعُ مُريديهم، هذا الإشهار، إلى مربع الصراع العقَدي على نحوٍ مباشر. إنه في عرفهم الحُجّة القاطعة على الجَوهرانية الدينية للصِّراع بين اليهودِ والعرب المسلمين في الأرض المقدسة.

من نافل القول إنه من غير الممكن، بحال من الأحوال، التغافلُ عن الجانب الدينيّ من هذا الصراع، في مجالٍ تداوليٍّ جغرافيٍّ هو في الأساس مهدُ السريديات الدينية التوحيدية الكبرى، فضلًا عن كون الفاعلين المباشَرين السياسيين في الشطر الراهن من تاريخ هذا الصراع أحزابًا سياسية دينيّة مؤدلجة. لكنّ المشهدَ الجاري لا يستقيم، في العمق، إلّا في قلب الرؤية إلى آلياتِ الهيمنة والتسلّط التي تتحكم بما يجري.

فالإسلام اليومَ، في هذه السردية، ليس دينًا وميراثًا فحسب، بل ينطوي، بلِحاظِ هوية المقاتلين باسمه في هذه الحرب، ومعجمِ خطابهم وخطابِ من يساندُهم، على مجمل طبقات الحقيقة التي ما عاد ممكنًا إغفالُها؛ أي حقِّ الطرفِ المهيمَن عليه بالحدّ اللائق والمستحَقّ من الكرامة الإنسانية، وتقرير المصير، والسيادة المادية واللغوية على أرض هي مِلكه بالمعنى العُقَلائي.

إذًا، فإن السردية الإسلامية ليست في هذا الحيزِ سوى واحدٍ من التمظهرات المرحليّة للقضية الوطنية الحقوقيّة الفلسطينية في العصر الحديث. وليسَ الفعلُ الذي أقدم عليه ذاك الجندي التائب ــــ وهو في ظاهره إشهارٌ ديني ــــ إلا حجّة مادية أخرى، من حجج كثيرة، تعكس بالوجه المباشر مآزق الاحتلال بوصفه حالة صارتْ تعاكس، باستمراريتها وتهافتِ سرديتها الأخلاقية، أيّ منزعٍ عقلاني.

وإلى ذلك، فإن فعل هذا الجنديّ له نظائر، وإنْ بدت ظاهرًا في غير وجه دينيّ، لكنّها تحيل إلى المربع الأخلاقي الحقوقي نفسِه، كمثل رفضِ كثيرٍ من جنود الاحتلال الانخراط في الحرب الجارية، إما انسحابًا من ساحات القتال لهولِ ما يشهدون، وإما استنكافًا عن المشاركة في مثل هذه المقتلة اللاأخلاقية (الجنديّ تال ميتينيك ذو الثمانية عشر عامًا مثال من بين أمثلة برزت في الآونة الأخيرة).

إشهار غير المسلم إسلامَه، في زمن الدولة الحديثة، "دولةِ المواطنة"، ليس هو الإشهار القديم عينَه في مجتمعات الخلافة

أقول إنَّ عقيدةَ الفرد الدينية ليسَت، في العمق، شأنًا ذاتيًّا صرفًا، خصوصًا إذا ما جرى طرحُها بين الناس في المجال العام، وفي جماعةٍ دينية تُؤدي وظيفة مباشرة في التاريخ. لأجل ذلك، واظبت شرائع الأديان الجماعية، كالإسلامِ، على تقنين ما يشيع في المجال العام، ووضعهِ تحت المجهر، لأنه ينطوي على ما به يتبلور وعي الأفراد سلبًا أو إيجابًا.

ولأجل ذلك أيضًا، يزخر المجال الفقهي الإسلاميّ، مثلًا، في متونه المؤسِّسة القديمة، بتقريراتٍ للعقوبة الإشكالية التي يستحقها المرتد عن الإسلام، وهي الاستِتابة ثم القتل؛ فالإسلام بوصفه دين جماعة وخلافةٍ في الأرض يمتلك المجالُ العام، ويقنّنه ويقولبُه، لا بحسب مشيئة الفرد ورغائبه، بل كما ينبغي أن تُيسَّر للجماعة المؤمنة مقاصدُ هذه الشريعة كما جرى تأصيلُها وهي: حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال.

على أنّ إشهارَ غير المسلمِ إسلامَه، في زماننا المعاصر، زمنِ الدولة الحديثة، "دولةِ المواطنة"، ليس هو الإشهارَ القديمَ عينَه في مجتمعات الخلافةِ والسلطناتِ الإسلامية. فوجه الشبه بين العمليتين النفسيّتين على الصعيد الفردي الذاتي، ليس بالضرورة تطابقًا في الوظيفة الخارجية، لناحية ما يترتب على هذا الإشهار.

فالإشهار في أيامنا هذه، يُبرِز إلى الحيز المجتمعي الحديثِ جلّ التباينات ما بين غيابِ سلطة الشريعةِ بالمعنى الفقهي التنفيذيّ وسلطة القانون المدني الذي ليس هوَ الشريعةَ في ذاتها، بل إنَّ الشريعة تظلُّله. فالنصُّ الدستوريّ الحديث يلحظ حرية العقيدة والفكر في ما يشبه تعطيلًا ضمنيًا لما كانَ بيد القاضي/الحاكم الشرعيّ في عهود خلت.

لكنَّ المسألة تظل أعقدَ من ظاهر النصوص والأفعال. فالسلطات الفعلية في دولنا الحديثة، دولِ ما بعد الخلافة، ومن ثَمّ دول ما بعد الاستقلالاتِ غير الناجزة، هي سلطاتٌ مركّبة، يقع المجتمعُ، بما هو كتلة بشرية ضخمة لم تنفكّ من ميراثها الديني، في صلبها. وأنْ يشهر شخص ما إسلامه في هذه المجتمعات الحديثة، ليس أقلَّ من مادة خصبة للاستثمار؛ مادةٍ تقع ـــ ونحن في ذروة الثورة الرقمية ـــ في قلبِ مجال بصريّ يطالُ ربما جلّ البشر على سطح هذا الكوكبِ.

يترتبُ على ذلك، إذن، أنَّ هذه المادة، ليست موضوعة دينيةً فقط، بل قد تطال مجملَ العلائق التي تتصل بنزاعاتٍ الدول الحديثة على صعيد جماعاتِها المكوِّنَة والمشكَّلة عقَديا وثقافيًّا وسياسيًّا.

الخلاصة أنّ مسألةَ هذا الإشهار، على أهمّيتها، ذاتُ وجوه ودلالات، وقد لا يدرك هؤلاء الدعاة بقنواتهم ومريديهم جلَّ تلك الوجوهِ والدّلالات. لكنَّ الأخطر في طرائق التلقي الاحتفائِي العقَدي بتلك التوباتِ الإشهارية، أنها تُخصِبُ كل سردية تسعى إلى حصر الصراع في حصنه الدينيّ بغير الانتباه في لحظة ما إلى أن هذه السردية قد تغدو بمحمولاتها وانزلاقاتها، عبْئًا ما لم يجرِ إدراجُها في قلبِ مشروعٍ وطنيّ متكاملٍ معقولٍ يضع الحقَّ الفلسطيني في نصابِه التاريخيّ الموضوعيّ.  

معاوية والمائة الرماديّة الأولى

تختلف طبيعة معرفتنا بمعاوية، بالضرورة، عن شخصيات الحقبة العباسية وما بعدها. فالحقبة الأموية، وتحديدًا فر...

حسن نصور
أوهامُ المغامسيِّ... في سبيل مذهبٍ جديد

هل يوجد دوافع سياسية تكمن وراء تصريح الداعية صالح المغامسي بشأن "تأسيس مذهب فقهي إسلامي جديد"؟ أم هي مجرد...

حسن نصور
أجسادُنا، وما يشحنُها في طوفانها الكبير

تجهل أخلاقُ "الطاغوتِ (الحداثيّ) المتوحّش" مدرَكاتِ المقاتل الذي اخترق السياجَ في غزّة، وصلاتِه الشعورية....

حسن نصور

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة