كيف نفهم الموقف المصري مما يجري في غزة؟ ‎

يسعى النظام المصري إلى استغلال أجواء الحرب من أجل استعادة قبضته الأمنية التي بدأت تضعُف مع تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية. هذه قراءة للموقف المصري من الحرب في غزة.

تعيش القاهرة على المستويين، الرسمي والشعبي، أجواء مضطربة منذ اقتحام المقاومة الفلسطينية في غزة سياج الحصار الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، وما تلا ذلك من مذابح إسرائيلية قد تكون الأعنف منذ نكبة عام 1948. وقد جاءت هذه الأحداث في وقت يواجه فيه النظام المصري الحاكم أشد فتراته ضعفًا، وأقواها ضغطًا خارجيًا وداخليًا.

شعبيًا، يتّسم تحرّك النظام بالخشية من عودة الجماهير إلى الشارع بدافع الاحتجاج على المجازر الإسرائيليّة، وهو أمر يمكن أن يمتد ليلامس قضايا داخلية بعد عقد من القمع. من هنا، فهو يرغب بتفريغ بعض الغضب الشعبي الذي تراكم خلال سنوات الشدّة الاقتصادية وما تلا ذلك أثناء معركة التوكيلات الرسمية في الانتخابات الرئاسية التي شهدت حالة واحتقان واسع.

ويصعب تصوّر أنّ الاستمرار في سياسة الانصياع التام للرغبات الإسرائيلية ما زال ممكنًا كما كان الحال في بداية عهد النظام. إذ أصبحت درجة حرارة الشارع المصري عالية إلى حدّ لم تعد معه تحتمل أن تميل مصر الرسمية إلى جانب الطرف المرتكب للمجازر، مع الأخذ في الاعتبار أيضًا أن مصر لن تكون على خط مواجهة مباشرة مع إسرائيل، خصوصًا بعدما نجحت الأخيرة في حشد دعم غربي لا مثيل له.

ستُوظّف حالة التعبئة الإعلامية والرسمية في مصر كقنابل دخان لتشديد القبضة الأمنية الداخلية

ويسعى النظام المصري إلى استغلال الأجواء القائمة من أجل استعادة قبضته الأمنية التي بدأت تضعُف مع تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية نتيجة تردّي الأوضاع الاقتصادية.

وقد لجأ في هذا السياق إلى استراتيجية "تأميم الاحتجاج" على المجازر الإسرائيلية وإعلاء نبرة الصوت الموجّه إلى الداخل، عن طريق تعبئةٍ تتبنى خطابًا عسكريًا ووطنيًا زاعقًا يحيل إلى حالة حرب مزيّفة. وقد رأينا أمثلة على ذلك في البرلمان من بينها مطالبة أحد الأذرع البرلمانية للنظام بإلغاء اتفاقية "كامب ديفيد"، وهذه طريقة يُراد من خلالها شدّ العصب الوطمي وتحقيق مكاسب صوريّة لا أكثر، تتمثل بإدخال قَطرات المساعدة إلى غزة، برغم انصياع النظام للشروط الإسرائيلية كإخضاع المساعدات للفحص والتفتيش.

ويقدّم هذا صورة مفادها أن النظام فرض إرادة مصرية على الإرادة الإسرائيلية الرافضة لإدخال المساعدات، وضخّم "شبه الانتصار" المتمثل في الاعتذار الإسرائيلي عن قصف وحدة عسكرية مصرية وإصابة تسعة جنود، بينما لن تأتيَ سيرةُ الشهيد حازم حمدي بركة، أحد أفراد جهاز الشرطة المصرية، الذي اغتالته النيران الإسرائيلية عند معبر رفح.

وقد نُظّمت، في موازاة ذلك، احتجاجات ضد العدوان الإسرائيلي بدعم ومشاركة وتنظيم رسمي. فحشَدَ النظام قواه الإعلامية والسياسية بهدف "أخذ اللقطة" كما ورد على لسان أحد قيادات جهاز الشرطة المصرية، وتماهى التحرّك مع رفع شعارات التأييد وتفويض النظام، ومع حضور أمني كيثف بهدف عدم السماح بتخطّي الغضب الشعبي قضية فلسطين، واستغلال فرصة فتح الميادين للقفز فوق سياج الخوف للهتاف ضد السلطة والمطالبة بالحرية.

ستُوظّف حالة التعبئة الإعلامية والرسمية هذه كقنابل دخان لتشديد القبضة الأمنية الداخلية، وتزخيم حملة الاعتقالات ضد المعارضين السياسيين الخارجين عن الكتالوج الرسمي الخاص بالهتافات أو اللافتات، أي ذاك الذي يجمع دعم فلسطين بتأييد النظام. وقد بلغ عدد المعتقلين حتى كتابة المقالة نحو 120 متظاهر. وسيُستثمر ذلك أيضًا في إطار تصفية الحسابات مع معارضين شاركوا في إعداد الحملة الانتخابية لأحمد الطنطاوي، أو من خلال التصديق على أحكام السجن المشدّدة بحقّ شخصيات بارزة كعبد المنعم أبو الفتوح وآخرين، وهي خطوات كانت أكثر إرباكًا للنظام في ظروف غير ظروف التعبئة العسكرية الحالية.

هناك من رأى في الحرب فرصة لمعالجة أزمات النظام الخانقة، غير أن هذا الرأي واجه ممانعة من أطراف أخرى داخل النظام

خارجيًا، يحاول النظام أن يوازن بين علاقاته ومصالحه الوثيقة بدولة الاحتلال والولايات المتحدة، وبين عدم التمادي في الانصياع لرغبات الخارج إلى حدّ السماح بتهديد الأمن القومي.

وتشير مصادر من داخل النظام إلى أنّ هناك من رأى في الحرب الحالية فرصة يمكن من خلالها معالجة أزمات النظام الخانقة، عن طريق قبول واحدة من الخطط الإسرائيلية المدعومة أميركيًا، المتمثلة بقبول مصر بتهجير مئات آلاف الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، أو عودة الإدارة المصرية إلى القطاع وتحمل مسؤوليته بالكامل، في مقابل الحصول على عدد من المكاسب بينها شطب جزء من الديون الخارجية الثقيلة، وتسهيل التعامل مع ملف سد النهضة الأثيوبي الذي يهدد الأمن المائي لمصر.

غير أن هذه الخطط واجهت ممانعة قوية من أطراف أخرى داخل النظام، لما رأته تهديدًا خطيرًا للأمن القومي المصري. فقبول تهجير عدد من الفلسطينيين سيفتح الباب أمام عملية تهجير جديدة قد تصل إلى إزاحة قطاع غزة بالكامل إلى داخل الأراضي المصرية، والأخيرة قد تصبح مسرحًا للعمليات ضد الجانب الإسرائيلي، وهو ما يفتح الباب أمام احتكاكات مباشرة بين مصر وإسرائيل، أو إلى اصطدامٍ بالمقاومة الفلسطينية كما جرى في الأردن في سبتمبر/أيلول الأسود عام 1970، أو في لبنان خلال حربه الأهلية اللبنانية، علمًا أن الوعود والمكاسب المعروضة يشوبها الكثير من الغموض. 

قد تعمد السلطة إلى تمرير سياسيات اقتصادية قاسية تحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"

وللحيلولة دون ذلك، تحاول الأجهزة المصرية إدخال بعض المساعدات لإبعاد كأس النزوح الجماعي، واستغلال أوراق ضغط بينها منع مرور مزدوجي الجنسية من رفح إلى الأراضي المصرية، واستغلال نفوذها لدى الفصائل الفلسطينية للعمل كوسيط في ملف الأسرى، وهو أمر أحدث على ما يبدو تنازعًا مع قطر التي ترغب بالاستحواذ بهذا الملف، خصوصًا أنها تتعرّض لضغوط بسبب التغطية الواسعة لقناة "الجزيرة". ولعلّ هذا ما دفع القاهرة إلى تقديم تغطية أوسع وأشمل للأحداث عبر قنواتها الإخبارية، من دون أن يبلغ تأثير ذلك وانتشاره بالطبع ما بلغته "الجزيرة".

ومع فشل المؤتمر الدولي الذي عقده السيسي بهدف وقف إطلاق النار أو ضمان أمن المعبر وفتحه بشكل كامل، وهو فشل كان متوقعًا نظرًا لغياب تمثيل عالي المستوى من القوى الفاعلة والمؤثرة في المشهد، بدا الموقف المصري بالغ الضعف، خصوصًا أنّ الموقفين السعودي والاماراتي كانا شديدي الوهن بدورهما، إذ لم يتجاوزا التصريحات عديمة الجدوى في أفضل الأحوال، لارتباط هذه المواقف بمصالح تتخطى حياة الفلسطينيين وأمن مصر على السواء.

خلاصة القول أن النظام الحاكم في القاهرة يحاول، حتى هذه اللحظة، التمسك بموقفه الرافض لتهجير فلسطينيّي قطاع غزة إلى الداخل المصري، أو نقل تبعية القطاع إلى الإدارة المصرية، مقترحًا حلولًا أخرى مثل التهجير إلى صحراء النقب أو إنشاء مخيمات على تخوم القطاع وجنوبه، علمًا أن الموقف هذا يمكن أن يتغير في أيّ لحظة ربطًا بالضغوط الغربية وتأزّم الوضع الداخلي، ولامبالاة الدول الخليجية، وهو يسعى في الوقت نفسه إلى استغلال الغضب الشعبي لقمع أصوات معارضة، وربما لتمرير سياسيات اقتصادية قاسية تحت ستار من التعبئة النفسية وشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".

معبر رفح في اليوم التسعين من الحرب

ما طبيعة القيود على معبر رفح، شريان حياة غزة، بعد ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على القطاع؟

أحمد عابدين
مصر و"حماس": مسار العلاقات المتأرجحة

مع دخول الحرب على غزة شهرها السادس، كيف بلغنا احتمال قطع غزة عن مصر تمامًا؟ وما هي مراحل تحوّل العلاقات..

أحمد عابدين
اجتياح رفح: كابوس مصر الذي تُجاهد لمنعه

تستعد القاهرة للاحتمال المتمثّل باجتياح رفح ونزوح مئات آلاف الفلسطينيين إلى سيناء عبر وضع خطط لاحتواء..

أحمد عابدين

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة