اجتياح رفح: كابوس مصر الذي تُجاهد لمنعه

تستعد القاهرة للاحتمال المتمثّل باجتياح رفح ونزوح مئات آلاف الفلسطينيين إلى سيناء عبر وضع خطط لاحتواء النزوح وتأمين اللوجيستيات اللازمة. لكنها، في الوقت عينه، ترى في هذا الاحتمال كابوسًا قد لا تتمكّن من التعامل مع تبعاته في المستقبل.

خلال محادثات أجراها مسؤولون عسكريون وأمنيون مصريون مع نظرائهم الإسرائيليين، طَرحت مصر صفقة جديدة لتبادل الأسرى بين "حماس" وإسرائيل، في مسعى منها للحيلولة دون اجتياح مدينة رفح الفلسطينية، فيما قابل الجانب الإسرائيلي المقترحات تلك بالتلويح بقرب إطلاق عملية الاجتياح، حتى بدا التلويح موجّهًا لمصر أكثر مما هو موجّه لحركة "حماس".

فبحسب موقع "أكسيوس" الأميركي، عُقد لقاء في القاهرة بين رئيس أركان جيش الاحتلال الجنرال هرتسي هاليفي ومدير جهاز الشاباك رونين بار، وبين نظيريهما المصريين أسامة عسكر وعباس كامل، طرح فيه الأخيران مبادرة جديدة لصفقة التبادل. وقد تبعت ذلك اللقاء بساعات زيارةٌ أخرى لوفد استخباري مصري إلى تل أبيب، التقى فيها الوفدُ ممثلين عن "الشاباك" وجيش الاحتلال و"الموساد" للتباحث في أمر الصفقة.

وبالتزامن مع ذلك، نُقل خبر على لسان مصدر مصري مفاده أن اجتياح رفح سيُقابل بـ"رد حاسم" من القاهرة التي تعتبره خرقًا لـ"معاهدة كامب ديفيد"، بينما أفادت وسائل إعلام أميركية وعبرية بأن الطرف المصري أوضح في لقاءاته الأمنية مع الإسرائيليين عزمه الضغط على "حماس" للتوصل إلى اتفاق. في المقابل، أبلغت إسرائيل الوفد المصري بأن فرصة الاتفاق تلك "هي الأخيرة"، وبأنها ستمضي في عملية الغزو في حال عدم إحراز تقدم في المفاوضات.

وفي سياق الرسائل الإيحائيّة المتبادلة، برزت زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الأكاديمية العسكرية المصرية في العاصمة الإدارية الجديدة، والتي تفقّد خلالها عرضًا يُظهر صورًا لمواصفات دبابة الميركافا الإسرائيلية وقدراتها ونقاط ضعفها. أما على الجانب الإسرائيلي، فقد برز تطوّر آخر يتّصل بضغط من الداخل. إذ تلقّى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو رسالة واضحة من وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش مفادها التالي: سيتمّ إسقاط الحكومة في حال الموافقة على المقترح المصري لتبادل الأسرى.. بدلًا من دخول رفح.

المخيمات الداخلية غير ممكنة

وقُبيل جولة المحادثات والرسائل المتبادلة هذه، أكّدت القاهرة عشرات المرات على لسان مسؤولين من المستويات كافة أنها لن تقبل بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، حتى بدا جليًا أن ملف التهجير هو الشغل الشاغل للنظام المصري دونًا عن سائر جوانب الحرب الإنسانية والعسكرية.

ومنذ إعلان إسرائيل عن عملية محتملة لاجتياح رفح المتاخمة للحدود مع مصر، والتي تأوي نحو مليون وأربعمئة ألف إنسان من أهل المدينة والنازحين إليها من مناطق غزة الأخرى، تحاول القاهرة بشتى الطرق وقف هذه العملية أو تأجيلها لأطول فترة ممكنة، إذ تخشى أنّ عملية كهذه ستدفع بعشرات الآلاف من الفلسطينيين نحو الأراضي المصرية.

أي نزوح فلسطيني نحو الأراضي المصرية قد لا يشكّل مقدّمة لتوطين الفلسطينيين فحسب، بل لـ"توطين مقاومة إسرائيل" من داخل سيناء أيضًا

وقد كرّرت القاهرة موقفها خلال لقاءات سرية وعلنية مع الإسرائيليين والأميركيين والأوروبيين. واشترطت ــــ في حال القيام بالعملية ــــ نقل النازحين المتواجدين في رفح إلى مناطق أخرى داخل غزة قُبيل الشروع فيها، وَسَعت إلى إشراك دولة الإمارات لتسهيل ذلك، إلا أن عملية النقل هذه بدت شبه مستحيلة، سواء لجهة الوقت الذي ستستغرقُه أو لجهة عدم ثقة النازحين بأنهم لن يذهبوا ضحية المذابح الجماعية التي نفّذها جيش الاحتلال في الشمال.

وفي ما بدا أن القاهرة بدأت تنستنفد الحيل الممكنة، كثّفت محاولاتها الرامية إلى إبرام صفقة التبادل. لكنّها، في الوقت عينه، راحت تستعد للاحتمال الآخر المتمثّل بتنفيذ عمليّة الاجتياح بالفعل وما سينجم عنها من نزوح جماعي للفلسطينيين، وذلك عبر وضع خطط لاحتوائهم وتأمين اللوجيستيات اللازمة لذلك، من مخيمات يُمكن ضبطُها وكذلك من خلال تكثيف التواجد الأمني في سيناء وإعطاء تعليمات مشدّدة للقبائل حول كيفية التعامل مع النزوح إن وقع.

لكن لماذا ترى القاهرة في هذا الاجتياح كابوسًا يؤرق أمنها واستقرارها؟

"توطين المقاومة" ضد إسرائيل

تحمل المدينتان المصرية والفلسطينية على جانبي الحدود الاسم نفسه (رفح). وهذا ليس من قبيل الصدفة، إذ إنّ إدارتهما كانت واحدة لفترات طويلة، حيث لم تُقسم المدينة إلى اثنتين إلا بعد الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وترسيم الحدود مع مصر عام 1982.

لكنّ رسم الحدود بين المدينتين لم يفلح في فصل العائلات والعشائر، التي ظلّت على تواصل مستمر وتجمع بينها علاقات دائمة. بل إن الكثير من العائلات لا تزال منقسمة على ضفّتي رفح حتى اليوم.

يُمثّل هذا العامل الديمغرافي تحديًا أمنيًا كبيرًا، إذ إنّ أي نزوح فلسطيني نحو الأراضي المصرية قد لا يشكّل مقدّمة لتوطين الفلسطينيين فحسب، بل لـ"توطين مقاومة إسرائيل" من داخل سيناء أيضًا. فهذا النزوح يختلف عمّا سبقه عامي 2005 و2008، إذ كان محدودًا ومؤقتًا يومذاك. بينما الأمر مختلف هذه المرة على اعتبار أنه لن يكون للفلسطينيين شيء يعودون إليه بعدما سوّت إسرائيل كل شيء بالأرض وجعلتها غير قابلة للحياة.

وفي حال نزح عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف من الفلسطينيين، فمن المستبعد أن يسلّموا جميعًا بما حدث، بل يُتوقّع أن ينخرط بعضهم على الأقل في المقاومة. وقد تنضم إليهم أعداد من المصريين خصوصًا من أبناء القبائل، أو من الفلسطينيين المتواجدين في سيناء منذ نكبة 1948، ويُقدّر عددهم بنحو 20 ألفًا، بل حتى من المصريين المتعاطفين أو المناصرين للحقّ الفلسطيني من سائر المحافظات، وهو ما من شأنه أن يجعل من سيناء منطلقًا لعمليات ضد إسرائيل.

برغم القبضة الأمنية الشديدة والحصار العسكري المطبق على سيناء، يعلم النظام أن هذا كلّه قد لا يكون كافيًا

خلال السنوات الماضية ــــ منذ عام 2012 تحديدًا ــــ واجه الجيش المصري مجموعات إرهابية مسلّحة استهدفت الجيش والدولة بل المدنيين المصريين أيضًا، واستطاع أن يتغلّب على هذا التحدي بعد سنوات طويلة من الحرب الضروس. إلا أن الأمر سيختلف كليًا إذا ما تسلسَلَ السيناريو على النحو المذكور أعلاه.

فسلاح الفصائل سيكون موجهًا نحو إسرائيل، لا نحو الدولة المصرية. وإذا ما تصدّى الجيش المصري له، ستبدو عملياته بمنزلة حمايةٍ لأمن إسرائيل، وهو ما سيُضعف من شرعية المواجهة وكذلك من الموقف الرسمي أمام الضباط والجنود، بل أمام سائر فئات الشعب المصري.

كما سيعطي هذا الأمر إسرائيل، إن حدث، مبرّرًا لاستهداف الأراضي المصرية. وحينذاك قد لا تملك مصر رفاهية الصمت وعدم الرد، من دون أن ينفي ذلك عدم رغبتها بالانجرار إلى مواجهة من شأنها تفجير الوضع مع دولة الاحتلال ومن ورائها واشنطن.

وقد سبق للقيادي في "حماس" أسامة حمدان أن قال، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، إن محاولة القضاء على المقاومة الفلسطينية عن طريق تهجير أهل غزة نحو سيناء محكومة بالفشل، وإن سيناء حينذاك ستصبح قاعدة مقاومة أكثر رسوخًا تجاه الاحتلال. وأعتقد أن حديث حمدان لم يكن تلويحًا بشيء بقدر ما كان تقديرًا للمستقبل الصعب في المنطقة إذا ما أقدمت إسرائيل على فِعلتها، وهذا الأمر تدركه مصر جيدًا.

سيكون المستقبل أكثر تعقيدًا

على مدى أكثر من أربعين عامًا، ومنذ توقيع "اتفاقية كامب ديفيد"، مثّل التنسيق الأمني والعسكري بين مصر وإسرائيل أساس العلاقة مع الولايات المتحدة، حتّى إن البعض يذهب إلى أن أهمية إسرائيل بالنسبة لمصر تُماثل أهمية النفط بالنسبة لدول الخليج لجهة العلاقة مع واشنطن. تلك العلاقة التي حصلت بموجبها الأنظمة المصرية المتعاقبة على أكثر من 100 مليار دولار من المعونات، وحصدت جراءها أيضًا دعمًا سياسيًا سمح لها بتخطي الكثير من الأزمات. بل إن هذه العلاقة شكّلت حصنًا حصينًا للدكتاتورية المصرية في مواجهة المطالب الشعبية بالتغيير.

وقد عملت إسرائيل جاهدة من أجل استمرار هذه المعادلة، بل قدّمت الكثير من الدعم للسلطات المصرية من أجل استقرار العلاقات. إلا أن هذا كله على المحك اليوم، حيث تواجه تل أبيب بقيادة واحد من أقوى زعمائها منذ تأسيسها، بنيامين نتنياهو، وضعًا غير مسبوق، يدفع الأخير إلى التفكير بإحراق كل شيء لإنقاذ نفسه من مصير بالغ السوء مع انتهاء حرب غزة الحالية.

تبدو رفح، والحال هذه، الطريق الوحيد لإدامة الحرب واستمرار نتنياهو في موقعه، بعدما فشل مخطط التصعيد الإقليمي مع إيران، علمًا أن الأشهر الماضية أظهرت أن نفوذه داخل واشنطن أقوى من نفوذها عليه، وهو ما يصعّب على القاهرة التعامل مع التحدي الذي يمثّله.

لقد حاول النظام المصري منذ السابع من أكتوبر الخروج من الأزمة سالمًا، خصوصًا لجهة سعيه إلى احتواء الانفعال الشعبي الشديد حيال مُجريات الحرب. وعمد إلى إعادة إنتاج الأسلوب الأردني في التعامل مع هذه الحماسة، وذلك عبر السماح بتنظيم التظاهرات ضد إسرائيل مع الحفاظ على التعاون معها.

إلا أنّ حجم الاحتقان الشعبي في مصر، واختلاف السياق وشكل العلاقة بين الشعب والحاكم في البلدين، وضع حدودًا للأمر. فتحوّلت التظاهرات إلى احتجاجات ضد النظام نفسه، حتى قام بمنعها وبات الأمر يقتصر على وقفات بسيطة على أدراج نقابة الصحفيين، أو داخل صحن الجامع الأزهر، فيما لم يجد عموم الناس ــــ حتى الآن ــــ منفذًا لنصرة أهل غزة سوى عبر التبرعات أو الكتابة والنشر أو الدعاء.

غير أن الوضع سيصبح أكثر صعوبة إذا ما أصبحت سيناء منطلقًا للعمليات العسكرية ضد إسرائيل. فبرغم القبضة الأمنية الشديدة والحصار العسكري المطبق على سيناء، يعلم النظام أن هذا كلّه قد لا يكون كافيًا، وسيتعيّن عليه مواجهة وضع شديد الخطورة على استقراره ومستقبل علاقته مع إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة.

هذه المعطيات كلّها تضغط على القاهرة من أجل منع عملية الاجتياح البري لرفح، والتي ربما لم تعُد فرملتُها ممكنة إلا من خلال إبرام صفقة تبادل للأسرى، تعطّل الاندافعة الإسرائيلية، أو تشتري وقتًا ثمينًا يُمكن أن تحدث خلاله تحوّلات داخل تل أبيب، أو في أروقة صنع القرار في واشنطن نفسها.

معبر رفح في اليوم التسعين من الحرب

ما طبيعة القيود على معبر رفح، شريان حياة غزة، بعد ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على القطاع؟

أحمد عابدين
اتحاد القبائل العربية واحتواء النزوح الفلسطيني المحتمل

ليس هناك "أفضل" من العرجاني للتعامل مع احتمالات النزوح الفلسطيني، بعد نجاحه في المهام التي أوكلت إليه..

أحمد عابدين
مصر و"حماس": مسار العلاقات المتأرجحة

مع دخول الحرب على غزة شهرها السادس، كيف بلغنا احتمال قطع غزة عن مصر تمامًا؟ وما هي مراحل تحوّل العلاقات..

أحمد عابدين

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة