"أنا الطبيب غسّان أبو ستة"

في المنشورات الحزينة التي يرسلها أبو ستة إلى العالم الخارجي، تصويرٌ لقتامة المشهد، ولكنه يجد دائمًا منفذًا يدخل منه النور. يتحدث عن أهمية "اليوم التالي"، عن "أن الحرب لا تنتهي عندما يتوقف القصف".

وقف الطبيبُ في 17 أكتوبر 2023 بين الأدلّة المكدسة ليلةَ قصف إسرائيل المستشفى "الأهلي المعمداني" في غزة.

قال: "أنا الطبيب غسّان سليمان أبو ستة". بدا، وهو يروي تفاصيل القصف بدقّة شديدة، كمن يقف في محاكمة ليُدلي بإفادة كفيلة بتغيير حكمٍ في قضية. أعدتُ مشاهدة الفيديو غير مرة. فكّرت في التناقض بين الموضوعية في تفاصيل روايته، والذاتيّة الحزينة في عينيه المذهولتين. مَن قرأَ روايات إرنست همنغواي عن الحرب، بوصفِه السهل المباشر، ولكن التصويري النابض بالحياة، يدرك هذا التناقص.

كانت المرة الأولى التي أستمع فيها إليه في هذه الحرب، ثم أصبحَ، في بقعةٍ آخذةٍ في الانقطاع عن العالم، ثقبَ مفتاحٍ أرى من خلاله ما يحدث.

هي ليست الحرب الأولى التي يتطوّع فيها جراحُ التجميل والترميم الفلسطيني ــــ البريطاني، ولكنها حتمًا الأكثر تعريفًا به. للطبيب الذي درسَ في جامعة غلاسكو وزاولَ الطب في بيروت ولندن مؤلّفاتٌ في جراحة إصابات الحروب، وقصصٌ وإفادات يُعتَّد بها في محاكماتٍ افتراضية. عمِل في سوريا واليمن والعراق وجنوب لبنان وغزة، وهو عضو مؤسس لمنظمة "إنارة" التي تعمل في تغطية نفقات علاج الأطفال المتأثرين بالحروب.

أسألُ نفسي، منذ أن عرفتُ أنه لا يقيم أصلًا في غزة، ما الذي يجعل إنسانًا يترك أسرةً وحياةً طبيعية ليذهب إلى مكانٍ يشبه الجحيم؟ أذكر خبرًا قرأتُه منذ أيام عن أطباء إسرائيليين وقّعوا عريضةً يطالبون فيها بقصف المستشفيات في غزة، بحجة أنّ الإرهاب والطبّ لا يجتمعان. أقرأُ مقالة أخرى تعاود الظهور عن أطباء إسرائيليين حصدوا، في ممارسةٍ استمرت حتى التسعينيات، أعضاء من أجساد ضحايا فلسطينيين. ليس كلّ الأطباء سيان.

أرى، أنا المشاهِدة من بعيد، "هالةً" فوق هذا الشاهد.

أحاول أن أفهم لماذا...

يبدو أبو ستة كشخصية في رواية دستوبية، يخيطُ الجروح دون توقّف عسى أن يكتب للقصة نهايةً مختلفة

وسط الحزن المكبِّل وصور المسعفين والأطفال بعد القصف، أريدُ ما يطمئنني أن هذا الشر ليس عبثيًا. أعجزُ عن فهم كيف يصابُ الأطفال بالسرطان، فكيف أفهمُ أن قتلَ الرضّع يمكن أن يكون غير ذي معنى؟

أحاول أن أجدَ حكمة من وراء هذا القتل. إزاء مشهد الخدّج الذين يسرِقُ منهم الكبارُ الأكسجين من أجل الشعور بنشوة الانتقام، لا بدّ أن يكون هناك عقل بشري محكوم بالرأفة.

طبيبُ التجميل والترميم حاول مدة 42 يومًا، أن يجمّل قليلًا مما بلغه فعلُ البشر. يبدو لي أحيانًا كشخصية في رواية دستوبية، كالرجل الأخير الباقي على قيد الحياة، يخيطُ الجروح دون توقّف عسى أن يكتب للقصة نهايةً مختلفة.

في المنشورات الحزينة التي يرسلُها إلى العالم الخارجي، تصويرٌ لقتامة المشهد، ولكنه يجد دائمًا منفذًا يدخل منه النور. يتحدثُ في ظهور له، على سبيل المثال، عن أهمية "اليوم التالي"، عن "أن الحرب لا تنتهي عندما يتوقف القصف".

في ما أشاهدُه كلّ يوم موتٌ على موت، ولكن الطبيب يضيءُ على الحياة المتبقية في الأطراف المبتورة والجروح الآخذة في الالتئام. يتحدثُ، في منشور له، عن تبدّد الدخان من سماء غزة الجميلة، بعد إنجازه جراحةً لرِجل طفل في الخامسة. يصف التفاؤلَ في أصوات حديثي الولادة في غرفة عمليات الولادة القيصرية المجاورة، و"ضحكات الموظفين لأول مرة منذ وقت طويل". ثم ينشرُ صورةً لمولودٍ نائم في لباس أبيض يتمنى له أن يكبر ليصبح رجلًا حرًا.

تصلحُ رحلة الطبيب إلى غزة لأن تكون روايةً من روايات الحرب. فيها الدمُ والمغامرة والمأساة والأمل والنهايات. أستذكر من خلاله رواية همنغواي "لمن تقرع الأجراس"، التي يتركُ  فيها بطل الرواية، روبرت جوردن، عملَه كأستاذ جامعي ليتطوع مقاتلًا في الحرب الإسبانية ضد الفاشيين. تنتهي القصة بسقوط جوردن مصابا قبل أن يقول، في كلماتٍ أخيرة، "العالم مكانٌ جميل، ويستحق القتال من أجله".

غادر الدكتور أبو ستة غزة في 18 نوفمبر 2023، بعد تعذّر إجراء المزيد من العمليات الجراحية في "المستشفى الأهلي" لنفاد المعدات الطبية وتحوّله إلى مركز للإسعافات الأولية فقط، تاركًا وراءه مئات الجرحى الذين يحتاجون إلى الجراحة، والذين "سيموتون متأثرين بجروحم".

قاتلَ حتى آخر ضمادة وترك قلبَه في غزة، المكان الجميل الذي يستحق القتال من أجله. 

إسرائيل تتقيّأ على العالم

أُدركُ أنه الذنب لأنّي نجَوْت. أمدُّ جسرًا من المشاعر بيني وبين أمهات غزّة اللواتي أهربُ من صورهن، وفي..

نورا بركات
الصورة الملكة

غزّة مقبرة جماعية. حقلُ دراسة لعلماء النفس والأطباء. فيلم هوليوودي مبالغ في أحداثه. غزة العليا بقعة..

نورا بركات
في يوم اللغة العربية، أخاف على غزة

عن قاموس غزّة في اليوم العالمي للغة العربية. عن التشبيه، والمجاز، وصيغ المبالغة، والإطناب، والتناص....

نورا بركات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة