في يوم اللغة العربية، أخاف على غزة

عن قاموس غزّة في اليوم العالمي للغة العربية. عن التشبيه، والمجاز، وصيغ المبالغة، والإطناب، والتناص.. والمعلِش.

لا بدّ أن ذلك الشعور اللحظويّ الذي انتابني مساءَ أمس، وأنا أنظر إلى صغيري، ليس خاصًا بي وحدي. أيحدثُ أن تنظر إلى أحد تعيش معه كلّ يوم، فتشعر أنّك تراه للمرة الأولى؟ أيحدثُ أن تسأل من أنت ومن هو وكيف بدأ هذا كله؟

من أنا؟ كيف أصبحَ هذا المخلوق ابني؟ كيف هذا الشعورُ الغريب؟ وكيف أصبحَتْ عيناه عينيه؟ ينظرُ إليّ الكائنُ اللطيف ذو الاسم العربي، الذي أصبح يتحدّث بلغتي برغم المكان الذي نعيش فيه، ويبتسم.

لا لغة عربية ولا غيرها تكفي لإيجاز هذه اللحظة الوجودية.

بحثتُ، وأنا أحدّق في ملامحه الصغيرة، عن كلام أصف به ما شعرت. لم يجد قلبي سوى "روح الروح".

تشبيه: أن تعقدَ مقارنةً بين عنصرين لوجود وجه شبه بينهما

قال الفلسطيني خالد نبهان، وهو يحضن حفيدتَه، الطفلة ريم، قبل الوداع الأخير: "هذه روح الروح".

هي "روح الروح".

بليغٌ هذا التشبيه. يصلحُ لأن يكون مثالًا متكرّرًا في دروس اللغة العربية، بدلًا من كليشيهات الأمثلة التي عفا عليها الزمن. ولكن "روح الروح" ليست جديدًا أتى به الجدُّ الثكلان.

لا يملكُ المحبُّ أن يبتكر جديدًا كلما فاض القلب. أنا أيضًا أحفر باحثةً عن التعبير عندما أُحبّ. "إنت قلب قلبي من جوا". أحضنُ صغيري وأعصرُ مخيّلتي. أقول كلامًا معادًا لأعبّئ فيض قلبي في قارورة كي لا أنفجر بكاءً بالحب.

قد تكونُ "روح الروح" كلامًا مستهلكًا. وبعض الكلام المعاد يفقد معناه، كما يفقدُ العطرُ ارتباطَه بالذكرى كلّما استُهلك أكثر. لكنّ الكليشيهات في غزّة الجميلة تُعيد اكتساب معانيها الأولى. وكأنّ "روح الروح" تقالُ للمرة الأولى. لن يكون لهذه العبارة الأليمة سياق أكثر تفرُّدًا. ما عادت العبارة هي نفسها.

مجاز: أن تستخدمَ الألفاظ لغير معناها المباشر

ليس مجازًا...

تقول فتاة جريحة لطبيب على سرير مستشفى في غزة: "عمو، بدي إسألك شغلة. عمو، هادا حلم ولا بجد؟ قُل لي". ينظّف الطبيبُ جروحها ولا يجيب. يبحث عن كلام يقوله. يتهرّب من الإجابة فيقول: "تخافيش يا عمو، إنت بخير يا عمو".

أشاهدُ المقطع مرتين. في المرة الأولى يُهيّأ لي أنها تسأل، مجازًا، لأنّ هَول الأمر يفوق الاحتمال. تُصرُّ الفتاة على السؤال باكيةً. أدركُ هذه المرة أن السؤال حرفيّ. كيف يكونُ سؤالٌ بهذه البساطة عصيًا على الإجابة؟

صيغ مبالغة: أسماء أو صفات تُشتَقّ من أفعال، تتّخذ أوزانًا محددة، ويُقصَد بها المبالغة

ما زلت أفكّرُ في غزة: كيف دخل هذا المكان الصغير حياتنا اليومية؟ كيف أصبح له أثرُ صِيَغ المبالغة في تفاصيل صباحاتنا؟ حزنُنا أصبح أكبر، ولكن حبّنا أيضًا أكبر. تُضاعفُ هذه الحرب إحساسَنا بالأشياء. قريبةٌ غزة منا. أعزاء مَن تعوّدنا رؤيتَهم ينقلون لنا أخبارها.

تتوارد إلى ذهني صيغُ مبالغة تكثِّفُ بعضًا من مشاعري في صفاتٍ وتقطّرها. لا أحب استخدام صِيَغ المبالغة. ثقيلةٌ أوزانها على مسمعي. ولكن تحضُرني على سبيل المثال، إزاء الفقد الذي لا يتوقف، صفة "تيّامة"، كلما فكّرت بمن أحب، و"بكّاءة"، كلما تذكّرت والدي.

سُئلت مرّة عما تعنيه "مَعْلِش" بالإنكليزية،  لا أعرف.. ثمة كلام عصيّ على الترجمة

أفكِّرُ مجددًا في جدّ ريم، أو "سِيدها"،  كما كانت تدعوه ربما: "حنّانٌ" هذا الجدّ كما كان أبي. أنظُر إلى هيئته في مقطع فيديو آخر يقبِّلُ فيه دميةَ ريم التي عثرَ عليها بين الركام. أنظر إلى العمامة والعباءة واللحية. أفكر في صيغة مبالغة أخرى: "كذّابةٌ".. كذّابة رواياتُ العالم عن السُمر الملتحين.

ثم أقرأ خبرًا عن ائتلاف جديد يحلم فيه إسرائيليون بالعودة إلى مستعمرات غزة. أقول في نفسي:

"فوّازٌ" صاحبُ البيت المسروق، مهما أوغل السارق في القتل.

إطناب: أن تقولَ أكثر مما هو ضروري لإبلاغ المعنى؛ الإفراط في التعبير

في عدد الصواريخ التي سقطت حتى اليوم على غزة شيءٌ من الإطناب. لو كان القصدُ منها إبلاغ أي رسالة، لكانت وصلت منذ الأسبوع الأول.

نقرأ الموتَ كل صباح في أرقام جديدة. لم يعُد في زيادة القتل جديد. ندركُ أنها إبادة. حتى البدن ما عاد يقشعر لسماع هذه الكلمة. أصبحَ عددُ اليتامى 25 ألفًا، والأطفال الضحايا عشرة آلاف. أعدّ، أنا الأم، ما يعنيه ذلك من أعداد الثكالى. أسأل نفسي: متى تنفد مخزونات الأسلحة؟ متى تتعطّل سلسلة الإمداد بفعل الإفراط في الطلب على القتل؟

تناصّ: أن يحضر نصٌّ سابقٌ في نصّ لاحق

أخاف أن يغفو صغيري قبل أن يتناول عشاءه. أخالُه سيتضوّر جوعًا. ثمة شيء من الرهاب ورثناه عن أمهاتنا من الخلود إلى النوم بأمعاء خاوية.

كل مشاهد الموت قاسية ولكن أقساها تلك الأقرب إلينا. ما زالت الأم التي تصرخ في بداية الحرب: "يشهد علي الله الأولاد ماتوا قبل ما ياكلوا" أقسى ما رأيت.

تستحضرُ الأم الثكلى ما نردده نحن الأمهات الخائفات. تستعيض عن فعل النوم بالموت. تأخذُ خوفنا على أولادنا من الجوع ليلًا وتضربه بأضعاف. وفي لحظة تفجّع، حيث يتعطل العقل، تقول الأم، دون أن تدري، مثالًا أليمًا - أستحي أن أقول جميلًا - في مفهوم التناص.

مَعْلِش

سُئلت مرّة عما تعنيه "مَعْلِش" بالإنكليزية.

- لا أعرف.

ثمة كلام عصيّ على الترجمة. التورية مثلًا لفظٌ له معنيان تتعذّر ترجمته إلى لغة أخرى لخصائصه الشكلية التي ترتبط بلغته الأصلية. كأن تقول: "أنت روحي"، أي روحي من الروح، أو روحي أي ارحلي...

لكنّ "مَعْلِش" ليست تورية.

كيف أترجمُ سياقًا لم أعشه في كلمة؟ كلّ الحواشي لا تكفي لاختصار ذلك الأسى. مرجانيةُ هذه الكلمة، أو ربما محيّرة كلوحة بيضاء في متحفٍ معاصر، تتركُ للمتلقي حرية التفسير. يفكّكها كيفما يرى هذا العالم أو كيفما يريد أن يراه.

أواصل التفكير في ما تعنيه الكلمة. ماذا لو طُرِحت العبارةُ سؤالًا في امتحان:

"مَعْلِش". حلّل وناقش.

كيف كنت سأُجيب؟

كنت لأكتبَ مقدارَ صفحتين في التوعّد.

وكان ليكتب تلميذ آخر صفحة في الإيمان، وكانت أخرى ستكتب شيئًا في الحزن والقهر.

ولكننا، بإجاباتنا المجتزأة، كنا سنرسب جميعًا.

ربما تكون "مَعْلِش" ثغرةً معجمية تتعذّر ترجمتها، ولا يصلح فيها إلا الاقتراض اللغوي، كما اقتُرضت كلمة "انتفاضة" من قبل.

في يوم اللغة العربية التي أحبّ، أفكر في شبّان غزة الذين يحرصون على التحدث بالفصحى كلما سألهم مراسلٌ عن حالهم. أفكّر في طبيبٍ فلسطيني يناشد العالم محطمَّ القلب لم تسلَم منه سوى لغته المنسابة. وأخافُ على غزة، لغة كل إنسان فينا، من الاندثار.

إسرائيل تتقيّأ على العالم

أُدركُ أنه الذنب لأنّي نجَوْت. أمدُّ جسرًا من المشاعر بيني وبين أمهات غزّة اللواتي أهربُ من صورهن، وفي..

نورا بركات
الصورة الملكة

غزّة مقبرة جماعية. حقلُ دراسة لعلماء النفس والأطباء. فيلم هوليوودي مبالغ في أحداثه. غزة العليا بقعة..

نورا بركات
"أنا الطبيب غسّان أبو ستة"

في المنشورات الحزينة التي يرسلها أبو ستة إلى العالم الخارجي، تصويرٌ لقتامة المشهد، ولكنه يجد دائمًا..

نورا بركات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة