إسرائيل تتقيّأ على العالم

أُدركُ أنه الذنب لأنّي نجَوْت. أمدُّ جسرًا من المشاعر بيني وبين أمهات غزّة اللواتي أهربُ من صورهن، وفي داخلي طفل آخر ينتظر الخروج بعد أشهر.

إسرائيل تتقيّأ على العالم، في العتمة، حيث لا مناديل تكفي لاستيعاب كل ذلك القيء، ولا مياه، ولا كهرباء، وحيث ليس في العتمة إلا رائحة القيء.

وأنا هنا، حيث أعيش، أتفرّج. لا يسعني، من هنا، سوى التفرّج، ونشر بعض الصور التي آلمتني إلى حد البكاء، عسى أن يراها لا أعرف مَن. لعلّها تُخرِج طفلًا من مقبرة الأرقام لأربع وعشرين ساعة، قبل أن يحذفها سيّدُ الخوارزميات.

ليلة أمس وضعتُ ابني الذي لم يبلغ من العمر ثلاث سنوات في سريره، في غرفته الصغيرة. أسمعتُه أغنية من أغاني الأطفال، ثم نام ولم يستفق إلا على صوتي أنا في الصباح، كي نذهب إلى المدرسة في يوم عادي.

 * * * * *

إنه موسم 'الهالوين' في الولايات المتحدة. هنا حيث أعيش، الرعبُ مزحةٌ والعيون المفقوءة المعلّقة على شرفات المنازل طقسٌ احتفالي. كيف تكونُ الأطرافُ المبتورة مدعاةً للضحك؟ كيف يُنتظر مني أن أجد الهياكل العظمية أمرًا مسليًا؟

أعلّق في نفسي ساخرة: "لا يضحك على ذلك سوى المترفين المرفّهين الذين لا يتبوّل أطفالُهم في أسرّتهم خوفًا وهم نيام". ولكن العاديّة ينبغي ألا تكون مدعاةً لاستهجاني. أذكّر نفسي: "هذا هو العادي". هناك، حيث التروما مجانيّة، ما لا يجب أن يكون.

أعيش يومًا عاديًا. أقول لنفسي "check your privilege" بين الفينة والأخرى، لكنّ ذلك لا يُنقص من عدد القتلى شيئًا. أتّصل بزوجي لأسأله عمّا سيحدث. كم يحتاجُ القتل كي ينفجر على نفسه ويتوقف؟

أتذكّر ابني عندما يغضب ويبكي ويصرخ. أذكّر نفسي بأن لا سبيل لإيقاف تلك النوبة سوى الانتظار. ماذا نفعلُ إذا أمسكَ الغاضبُ سلاحًا؟ "Wait it out"، "ننتظر، حتى تزول الفورة".. هكذا قيل لسكّان غزة. لم يُسأَل هؤلاء إن كانوا هم أيضًا غاضبين.

 * * * * *

لا أريد أن أشاهد على هاتفي كلَّ ما يُنشر. أنا لا أستطيع أن "أرى". في ذاكرتي، منذ الطفولة، صورٌ دمويّة قهريّة ما زلتُ أحاول "أن أتعامل معها" ــــ لا "أن أمحوها" ــــ كما تقترح طبيبتي. وأنا لي معالِجة نفسية أيضًا على هذه الضفّة من الكوكب، يبدو أنها ستُضطر إلى الإصغاء إليّ وأنا أسألها في المرة المقبلة كيف أمحو صورةً من غزة رأيتها اليوم خطأً؟ ــــ "?How do I unsee it" ــــ لرضيع مات غرقًا في القيء، وتعذّر التعرف على ملامحه.

أُدركُ أنه الذنب لأنّي نجَوْت. أمدُّ جسرًا من المشاعر بيني وبين أولئك الأمهات اللواتي أهربُ من صورهنّ. في داخلي طفل آخر ينتظر الخروج بعد أشهر. تلكَ صورةٌ قهريةٌ أخرى من غزّة لامرأة حامل وجنين، خرج حيًّا هذه المرة، الخروجَ الأخير، إلى أرض لا خروج ثانيًا منها.

 * * * * *

في التايملاين صورٌ مشذّبة أيضًا لمَن لا يحتمل المآسي، منتقاةٌ بعناية كأنّها صور لمسرحِ جريمة جرى العبث به. يبثّها إعلامٌ مراعٍ للعين والقلب لا يُري من غزّة سوى صور وصفيّة لا تخبر شيئًا.

هذه، على سبيل المثال، صورةٌ لنازحين من شمال غزة إلى جنوبها. تظُنُّهم، للوهلة الأولى، نازحين بفعل جفاف أو إعصار أو هربًا من مبنى آيل للسقوط. هذا رجل يحمل أكياسًا، وتلك امرأة حزينة مكفهرّة. لا دماءَ في الصورة، لا أكفان لأطفال. يُقدَّم إلينا هؤلاء كأنهم جموع لا نعرف عنها شيئًا: أفواجٌ من ذوي البشرة السمراء خارجون من ديارهم، إلى خارج حدود الإنسانية.

وعلى المقلب الآخر، يُرينا الإعلام نساء بيضاوات يتفجعن بكاءً وحرقة، حيواتٍ تستأهل العيش، قصصًا تزخر بالأسماء والصور، ثم غرفةَ نوم في مستوطنة وملاءاتٍ ملطخة بالدماء، تطلقُ العنانَ لمخيلة "العالم الحر" أن يحزر قُبح ما جرى.

 * * * * *

في غزة أطفال يأتون ويُشطبون.

أصواتٌ بلا وجوه. يُنسَون بعد أربع وعشرين ساعة، عندما تُحذف الصورة، ولا تدخلُ صوَرُهم متاحفَ الإبادة.

ليت تلك الخسائر تكونُ فعلًا تراكميًا، وليتها تتوقّف الآن.

الصورة الملكة

غزّة مقبرة جماعية. حقلُ دراسة لعلماء النفس والأطباء. فيلم هوليوودي مبالغ في أحداثه. غزة العليا بقعة..

نورا بركات
"أنا الطبيب غسّان أبو ستة"

في المنشورات الحزينة التي يرسلها أبو ستة إلى العالم الخارجي، تصويرٌ لقتامة المشهد، ولكنه يجد دائمًا..

نورا بركات
في يوم اللغة العربية، أخاف على غزة

عن قاموس غزّة في اليوم العالمي للغة العربية. عن التشبيه، والمجاز، وصيغ المبالغة، والإطناب، والتناص....

نورا بركات

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة