يُنسى المرء حين يُنسى اسمه

هل سنرى لوحات نحاسية في شوارع فلسطين مشابهة للوحات ضحايا "الهولوكوست" هنا في ألمانيا؟ هل تتسع أرصفة المدن الفلسطينية لأسماء الضحايا؟

في الأيام الأولى لإقامتي في برلين، وبينما كنتُ وصديقتي نمشي في منطقة كرويتزبرغ، رأيت أربع لوحات نحاسية ملتصقة ببعضها تغطي حجارة الرصيف. سألت الصديقة، وقد رأتني أنحني لأحاول قراءة ما نُقش على الصفائح: "هل تعلمين ما هذه اللوحات؟"

أخبرتني أنَّ ما كُتب على هذه المربعات النحاسية هو أسماء الأشخاص الذين قتلهم النازيون أو رحّلوهم إلى معتقل "أوشفيتز" أو إلى سواه من الأماكن المماثلة! منذ ذلك اليوم، وكلما مررتُ في شارع ولمحت المربعات تلك، أنحني لأقرأ اسم الضحية وتاريخ اختفائه. ثمة أُسر بأكملها اختفت!

لا أعلم إن كان للأمر الأهمية ذاتها لدى جميع العابرين، لكنّ أمثالنا، من ذوي التاريخ الطويل من القهر والاحتلال، لا يسعهم أن يشيحوا بوجوههم غير مبالين، ما دفعني لأن أبدأ البحث عن صاحب فكرة المربعات والفنان الذي نفّذها.

"يُنسى المرء حين يُنسى اسمه"، يقول التلمود. وهذا ما دأب الفنان غونتر ديمينغ على الحيلولة دون حصوله منذ سبعة وعشرين عامًا. ففي عام 1996، تأسست جمعية تحمل اسم "الأحجار التذكارية"، جمعت ما يزيد عن 75 ألف اسم من أسماء الضحايا في نحو 200 بلدة ألمانية آنذاك.

يصنع غونتر هذه اللوحات ويغرسها أمام البيوت التي اتّخذها ضحايا النازية مساكن لهم قبل إقدام النازيين على إخفائهم. وتُعلن الأسماء والأماكن والتواريخ في الصحف التي ستوضع فيها قبل القيام بذلك. وقد يحصل أن يلتئم شمل عائلة من أصقاع الأرض كي تضع الزهور في اليوم المقرر، وتنحني لتقرأ الاسم وتتذكره.

قد يُفاجأ جيران الضحايا أيضًا حين تقع أعينهم على اللوحات التذكارية. بل إنّ غونتر ديمينغ أطلق على مشروعه هذا اسم "حجارة العثرات"، في إشارة إلى تعثّرك باللوحة واضطرارك للانحناء كي تقرأ ما كُتب. أمّا الرسالة التي يرمي غونتر ديمينغ إلى إيصالها فهي التالية: إعادةُ أسماء الضحايا إليهم إحياءٌ لذكرهم.

تقول ماشا غيسين في حوار تلفزيوني ناقشَت فيه مقالتها الأخيرة  في مجلة "نيويوركر": "لكي نفهم التاريخ علينا أن نقارن"

لم يقتصر أمر المشروع على الضحايا اليهود، بل طاول ضحايا آخرين للنازية، وإِنْ تعمّد كثير من الرواة إغفال الضحايا الآخرين من معارضين سياسيين وغجر ومثليين وشهود يهوا. كان للنازية ضحايا كثر، لكن التاريخ السائد يكاد لا يذكر سوى اليهود.

تُروِّس اللوحات النحاسية الصغيرة عبارة "هنا كان يسكن". وعلى السطور التالية الاسم الأول للضحية واسم عائلته وتاريخ ميلاده وسنة الاعتقال، وأحيانًا، يوضع مصير الضحية إذا ما كان معروفًا.

بحسب DW (دويتشه فيله، هيئة الإذاعة الدولية الحكومية الألمانية)، ثمة الآن أكثر من 46,000 لوحة موزعة في حوالي 1,100 موقع في ألمانيا وفي 16 دولة أوروبية أخرى، مثل بلجيكا وفرنسا وكرواتيا والنرويج وبولونيا والتشيك وهنغاريا. ويبدو أن العدد آخذ بالازدياد، ما اضطر الفنان غونتر ديمينغ إلى طلب المساعدة من نحات يدعى ميشائيل فريدريش يعيش في برلين.

في كلّ مرّة أرى هذه اللوحات أقرأها. وكلّما رأيتها وقرأتها أعود إلى ما قبل "النكبة" الفلسطينية في عام 1948.

تقول ماشا غيسين في حوار تلفزيوني ناقشَت فيه مقالتها الأخيرة "في ظلال الهولوكوست" المنشورة في مجلة "نيويوركر"، والتي أدّت إلى سحب جائزة منها بعد مقارنتها حال غزة بالغيتوات زمن النازيين: "لكي نفهم التاريخ علينا أن نقارن". وتُكمل أننا لسنا أذكى أو أنبه من أولئك الذين عاشوا منذ تسعين عامًا، قاصدة من ارتكبوا "الهولوكوست". وتضيف أنه يجدر بنا أن نقارن وأن نبقى يقظين لتلك المقارنة، حتى لا نقع في ما وقعوا فيه.

منذ أكثر من شهرين والعالم يتابع قصف إسرائيل الوحشي لقطاع غزة. وفي كلّ يوم يُعلَن عن أعداد جديدة للضحايا. وقد ترصد كاميرات الهاتف المحمول بعض أسماء الضحايا وصفاتهم فتعلق أسماؤهم وصورهم في أذهاننا. ولكن ماذا عن الذين لم يستطع أحد أن يلتقط لهم صورة؟ ماذا عن الذين لم يُعرَف بأمرهم؟ ماذا عن عائلات شطبها القتل بأكملها من قيود السجل المدني؟ من يعيد هؤلاء إلى الذاكرة؟

نحن نتذكّر يوسف، شعره كيرلي وأبيضاني وحلو. ماذا عن آلاف الأطفال الآخرين؟ نتذكر عائلة المراسل الصحفي وائل الدحدوح، لكن هناك عوائل أخرى لم يأت على ذكرها أحد. ونتذكر الشهيد سامر أبو دقة، غير أن عدد الصحفيين الذين استشهدوا منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر زاد عن التسعين. ما الذي يمكن أن نفعله حيال هذا الأمر؟ هذا ما أفكر فيه وأنا أستذكر مجازر الصهاينة منذ "النكبة"، بل منذ ما قبلها. 

أشعر بالقهر والعجز معًا، شأني شأن كثيرين: إنهم يقتلون كل ما يذكّرهم بهشاشة كيانهم

يذكر التاريخ أن عصابات "الأرغون" و"الهاغانا" و"البالماخ" و"الإنسل" و"ليحي" ارتكبت 18 مجزرة منذ عام 1937 حتى النكبة عام 1948، في حيفا والقدس وبلد الشيخ والعباسية والخصاص وباب العمود والشيخ بريك ويافا، راح ضحيتها ما يزيد على 400 شهيد.

وابتداء من عام 1948، أخذت المجازر منحى آخر، منحى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي للفلسطينيين. هذا ما حدث في دير ياسين والطنطورة مثلًا، قبل أن تقام على أنقاض قرية الطنطورة مستوطنة نحشوليم. وفي عام 1949، أقام الصهاينة مستوطنة أخرى على الجزء المتبقي من القرية، أطلقوا عليها اسم "موشاف دور" بعد أن قتلوا وهجّروا سكانها الفلسطينيين.

ثمة أيضًا مجزرة اللد في تموز/يونيو 1948 التي راح ضحيتها أكثر من 400 فلسطيني وهجِّر سكّانها البالغ عددهم نحو 70 ألفًا. وبعدها مجازر كفر قاسم عام 1956، وخان يونس عام 1956، واستُشهد يومذاك أكثر من 500 شخص في مجزرتين متتاليتين، وفي اليوم نفسه استشهد أكثر من 100 فلسطيني في رفح.

لا تتسع مقالتي لإحصاء جميع المجازر التي ارتكبها الصهاينة بحق الفلسطينيين والعرب، لكن مجازر بحر البقر وأبو زعبل والأقصى وصبرا وشاتيلا وقانا والحرم الابراهيمي وجنين مازالت طازجة في ذاكرتنا ولن يطويها النسيان.

يتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي صورة لمسنّة فلسطينية تقف أمام بيتها الذي احتله الصهاينة. أنظر إلى الصورة وأتذكر اللوحات النحاسية. وثمة صور كثيرة لمفاتيح بيوت ما زال لاجئون فلسطينيون يحتفظون بها على أمل العودة إلى بيوتهم وفتحها بهذا المفاتيح النحاسية القديمة.

تتزاحم صور القصف والتهجير في رأسي. ثمة قرى ومدن كاملة مُحيت، شأنها شأن سكانها، وقامت مكانها مستوطنات إسرائيلية لأناس لا يعرفون شيئًا عن تاريخ هذه البيوت القديمة. وما يجري الآن في غزة ما هو إلا تكرار لما حدث في الماضي. إبادة وتهجير ثم مستوطنات جديدة.

يقنص الإسرائيليون السيدة التي قالت لجندي إسرائيلي: أنا أكبر من دولتك. أتأمل وجهها، كم تشبه فلسطين، كم مرَّ على هذه السيدة من مجازر. أشعر بالقهر والعجز معًا، شأني شأن كثيرين. إنهم يقتلون كل ما يذكّرهم بهشاشة كيانهم. هل سنرى لوحات نحاسية في شوارع فلسطين مشابهة للّوحات هنا؟ السؤال الآخر: هل تتسع أرصفة المدن الفلسطينية لأسماء الضحايا؟

علينا أن نقاوم ــــ بكل ما أوتينا من حب لفلسطين ورغبة في البقاء ــــ استحالة ضحايانا إلى أرقام. وإن لم تتسع أرصفة الشوارع لأسماء الشهداء، فلتفعل الذاكرة والحكايات والتاريخ الذي نرويه!

الفرح ليس مهنة الشعراء

كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر..

هنادي زرقة
شجر الزيتون يبكي

أيمكن، حقًّا، أن يتكيّف الزيتون مع طقس ألمانيا، ويثمر بعد أجيال؟ أيُمكن للهندسة الوراثية أن تعدّل في..

هنادي زرقة
رماد في قارورة

أثمّة حنان يسري في تراب الوطن ولا يسري في تراب الغرباء؟ ما هذه الرَّمْنَسَة للموت؟ ما هذه الغربة المقلقة..

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة