حين اصطحبني المسؤول عن إقامتي في برلين إلى الشقة التي مُنحت لي، وبدأ يُريني أرجاء المنزل، لاحظ أنّه كلما خرجنا من غرفة أطفأتُ الأضواء خلفي. دُهِش لتصرفي وسألني: لماذا تطفئين الأضواء؟ فكّرتُ للحظة ثم أجبته: توفيرًا للطاقة!
لم أستطع أن أشرح له أنّي ما زلت تحت تأثير البطارية و"اللّد" (LED)، وأنّي لم أستوعب بعد أن الكهرباء هنا لا تنقطع. قام بعدها بتشغيل التدفئة في الغرف كافة، فاستوعبتُ أني أملك إنارة وتدفئة وماءً ساخنًا طوال الوقت. أنا التي أتيتُ من بلاد زُجَّت في الصقيع والظلمات.
لم ينسَ أخيرًا أن يدلّني إلى سلة المهملات ويشرح لي تقسيمها إلى ثلاثة أقسام: قسم للمواد العضوية وآخر للمواد البلاستيكية والثالث للورق، يا لاهتمامهم بالبيئة! وكأنَّ آلاف الأطنان من القنابل التي تُلقى في غزة وتقتل أناسًا آمنين وتدمر الحجر والبشر لا تضر بالبيئة! وكأن الغلاف الجوي الذي يحيط بأوروبا منفصلٌ عن الغلاف الجوي في بلداننا!
أرهقتني سلة المهملات في الأيام الأولى. هل يمكن أن أقسم ذاكرتي إلى ثلاثة أقسام: واحد للذكريات التي يمكن إعادة تدويرها، وآخر للذكريات القاسية التي ينبغي التخلص منها، وثالث لتلك التي يمكن أن تتحلّل وتُستخدم في تسميد لحظات جميلة سوف أحظى بها؟ ماذا عليَّ أن أرمي، وبم أحتفظ؟
كان كلُّ شيء مهيّأً لاستقبالي، فقد جُهِّزت الشقة بالصابون والمحارم الورقية وأكياس القمامة والمنظفات والشامبو والمناشف. كلُّ ما عليَّ فعله هو أن أسترخي وأكتب...
دخلت إلى الغرفة المخصّصة للكتابة. مكتب أنيق يطلّ على الشارع والأشجار، ومكتبة فارغة. ربما كانت المكتبة هي الشاهد الوحيد على الوحشة؛ لا أوراق... ولا كتب. ثمة شعور غريب تملّكني: كيف أبدأ من الصفر وأملأ المكتبة بالكتب؟ لا أذكر كيف بدأتُ بتجميع كتبي، أو كيف غدا لديَّ مكتبة. ها أنا أدخل في شعور العابرين مرة أخرى. ثمَّ لماذا عليَّ أن أقتني الكتب هنا؟ برلين ليست مدينتي، لكن بيتًا بلا مكتبة يبدو من الوحشة وكأنه زنزانة بالنسبة لي.
أضحك من فكرة خرائط "غوغل"، كيف يمكنك أن تُستخدم هذه الخرائط في حيّ مزة 86 في دمشق أو في حي الدعتور في اللاذقية؟
أرّقني شعوري بالدفء ووجود الكهرباء والقدرة على الاستحمام متى شئت، وخجلتُ من أصوات أهلي وأصدقائي الباردة.
قالت صديقتي: لا أحد يضيع في برلين، برلين مدينة منظمة ومرقّمة. لا وجود فيها لبناء عشوائي. استخدمي خرائط "غوغل" وسوف تصلين إلى وجهتك بدقّة! دار في ذهني سؤال: وماذا كان يفعل اللاجئون غير المتعلمين؟ كيف كانوا يهتدون إلى وجهاتهم؟
هكذا بدأتُ أعتمد على خرائط "غوغل"، ألحق بها مثل كلب مربوط إلى حبل ذاهلةً عن الطريق. لم يكن بوسعي أن أستمتع بأي شيء. عيني على الطريق وأذني مع الصوت الذي يدلني على الاتجاهات والشوارع.
من المخجل هنا أن تسأل أحدًا عن وجهتك، قد يكون غريبًا أو سائحًا. فبرلين مليئة بالغرباء من جميع البلدان. ولأن الجميع يستخدمون خرائط "غوغل"، سيبدو سؤالك ناشزًا. أتنهّد في سرّي وأتذكر سوريا، كيف كنتُ أتوقف مرارًا لأسأل عن المكان الذي أقصده، وكيف يتبرع الناس بإرشادي إليه. يا لتلك الألفة التي أفتقدها! وفي الوقت نفسه، أضحك من فكرة خرائط "غوغل"، كيف يمكنك أن تستخدم هذه الخرائط في حيّ مزة 86 في دمشق أو، على سبيل المثال، في حي الدعتور في اللاذقية أوفي جميع العشوائيات في المدن السورية؟ أو كيف سيدلك "غوغل" على أنقاض بيتك الذي كان؟
هنا سوف أكتشف في الهاتف الذكي تطبيقات لم أعهد استخدامها من ترجمة وخرائط وتحويل مصرفي وملاحظات وحركة القطارات والحافلات وتذكرة أستطيع بواسطتها التنقل في جميع مواصلات ألمانيا بـ 49 يورو فقط.
ترى ما هي التطبيقات التي تُستخدم في سوريا؟
قال كافكا: الشعر مرض، والشعر حالة من الحداد، عندما يتمّ بثّه يصبح شيئًا أشبه بمنكوب يتجوّل طالبًا التعازي
منحة كتابة!
يوفّرون لكَ كل شيء كي تكتب. أذكر ما قالته فرجينيا وولف: "يجب أن يمتلك المرء غرفة خاصة وقليلًا من المال كي يستطيع أن يكتب". لا أريد أن أكذب وأقول أنّي لم أمتلك المال في سوريا وأنه لم يكن لديَّ غرفة خاصة بي. لكنّي لحظة توقفتُ عن الكتابة، لم أكن قادرة على اجترار تجربة الحرب والموت إلى ما لانهاية. كانت الحكايات كثيرة، لكنها تدور في فلك الموت ومقاومة الموت وكنت أختنق رويدًا رويدًا.
كان كل من حولي آيلًا للسقوط، وكنّا نحاول أن نسند بعضنا بعضًا. لكن الهزيمة كانت تخيّم بشبحها فوق رؤوسنا، رؤوسنا التي بدأت تتقصف بفعل العواصف الكثيرة التي ألمت بالبلاد. كيف يمكن أن أكون مرتاحةً وسط ركام البشر والحجر؟
اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري: "الحقيقة البسيطة التي تخفيها هيمنة الإيديولوجيا هي أن الإنسان يجب أولًا أن يأكل ويشرب ويجد المأوى والملبس قبل أن يصبح في استطاعته الاهتمام بالسياسة والعلم والفن والدين". كيف يمكن للمرء، في بلد مثل سوريا، أن يكتب شعرًا، أو حتى أن يهتم بشأن ثقافي وهو لا يجد ما يسدّ به رمقه. أؤمن بأن الشعر شأنه شأن الثورة، يجب أن يخرج من رحم المعاناة، عليه أن يعبر هذا المطهر. ولكن أما من لحظة فرح في الشعر؟
أعيش لأكتب! كانت الحياة مُرْهِقة فخرج الشعر مرهقًا ومثخنًا بالحزن والخذلان.
كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر ماتوا وهُجِّروا واقتلعوا من بيوتهم، وكأن الشعر هو وشم الناجين من المذبحة، فأغرق في عقدة ذنب الناجي.
يسألونني هنا: ماذا تعملين؟ فأجيب باستحياء: أنا شاعرة!
تلك الكلمة التي لم أكن أستخدمها في سوريا، تصبح هنا نيشانًا تعلقه على جبينك، فللأدب هنا مكانة رفيعة بين الناس العاديين، هؤلاء الذين لديهم ما تحدث عنه ماركس.
قد تبدو الحياة هنا نعيمًا إذا ما قورنت بما يعيشه السوريون، لكن أزمات من نوع جديد سوف تولد هنا: أزمات اللغة والعزلة والخوف والبحث عن عمل... وأيديولوجيا البلد المضيف. وكأن الشعر لا يخرج إلا من الأزمات، وكأنه مكتوب على الشاعر أن يبقى وحيدًا وحزينًا ومغتربًا عن مجتمعه، تلاحقه النار لتحرقه أينما ارتحل.
قال كافكا: الشعر مرض. والشعر حالة من الحداد، عندما يتمّ بثّه يصبح شيئًا أشبه بمنكوب يتجوّل طالبًا التعازي، كما عبّر الشاعر الإيطالي فرانكو أرمينو وتابع: الشعر فعلٌ مناهض للرأسمالية على نحوٍ جذريّ، فهو لا يقبل أيّ شكل من أشكال التراكم، الجرح القديم هو دائمًا جرح جديد..