نوري اسكندر: العود والتشيللو والكمان في نغمٍ واحد
كان همّ نوري اسكندر الخاص تخليص الموسيقى العربية مما أصابها من خدر، وتوقّفها عند حدود التطريب لا أكثر. فبعد الموشحات الاندلسية، كما يرى، لم تطرأ أي انعطافة على المقامات الشرقية.
كان همّ نوري اسكندر الخاص تخليص الموسيقى العربية مما أصابها من خدر، وتوقّفها عند حدود التطريب لا أكثر. فبعد الموشحات الاندلسية، كما يرى، لم تطرأ أي انعطافة على المقامات الشرقية.
تلخّص رحلة نوري اسكندر (1938- 2023) الذي غاب منذ أيام في منفاه السويدي، التراجيديا السورية بامتياز. إذ وجد نفسه فجأة في العراء.
ففيما كان المتحاربون يتبادلون الكراهية والعنف، انكب الموسيقي السرياني منقّبًا عن كنوز البلاد الموسيقية المجهولة خشية اندثارها، لكنّ أحدًا لم يلتفت إلى دعم مشاريعه الأخيرة بما تستحق، فاضطر إلى الهجرة مرغمًا إلى المنفى الاسكندنافي، كما لو أنه يعيد سيرة العائلة في الترحال، من "الرها" على الحدود السورية ـــ التركية إلى دير الزور حيث ولد، وصولًا إلى حلب، ثم إلى دمشق. وكان عليه لضيق عيشه أن يبيع البيانو كآخر ما يملك مقابل السكن في منزل مستأجر.
بدأ نوري اسكندر حياته شمّاسًا في الكنيسة السريانية في حلب، فشغف بالتراتيل الكنسية والألحان السريانية القديمة. وحين أُتيحت الفرصة أمامه لدراسة الموسيقى أكاديميًا ببعثة إلى القاهرة، زمن الوحدة السورية ـــ المصرية، هجر الكنيسة متتبعًا حلمه الموسيقي الذي سينمو في فضاءات مدينة القاهرة، التي كانت تستضيف حينذاك فرقًا موسيقية من العالم. هناك، سينبهر اسكندر بفرقة الأوركسترا السمفونية.
في حلب التي عاد اسكندر إليها مع انتهاء البعثة، عمل مدرّسًا للموسيقى في مدارسها. وفي الوقت نفسه، كان يتطلع إلى وضع بصمته الخاصة على الموسيقى العربية. فعاد إلى الجذور الأولى في مشروع استمر عشرين عامًا، إذ عمل بدأب على تدوين التراث السماعي للموسيقى السريانية، وإذ به يكتشف نحو 900 لحن، رأى أنّها منبع الموسيقى السورية وإحدى أبرز مرجعياتها، ذلك أن هذا التراث كما يقول "لم يكن دينيًا صرفًا، بل استند في أنغامه إلى الموسيقى الشعبية في المنطقة، على عكس التراتيل البيزنطية".
سيكتشف صعوبة تأليف سيمفونيات عربية خالصة، إذ لم تكن محاولات البعض تتجاوز ترجمة الأعمال الكلاسيكية الغربية
عند هذا المنعطف، جرّب اسكندر صيغًا متعددة لتثوير المقامات، وذلك بمزج أصوات العود مع التشيلو والكمان، وكانت خلاصة هذه التجارب أسطوانة بعنوان "كونشيرتو العود"، ثم أتبعها بأسطوانة "الثلاثي الوتري".
كان همّه الخاص تخليص الموسيقى العربية مما أصابها من خدر، وتوقّفها عند حدود التطريب لا أكثر. فبعد الموشحات الأندلسية، كما يرى، لم تطرأ أي انعطافة على المقامات الشرقية، فعمل في موسيقاه على الحوار بين الآلات الموسيقية بقصد تحطيم القوالب الجاهزة، وخلق توليفات جديدة تضيف جملة لحنية مفارقة، تستكمل بعض تجارب سيد درويش ومحمد عبد الوهاب والأخوين رحباني.
سيكتشف اسكندر حينذاك صعوبة تأليف سيمفونيات عربية خالصة. إذ لم تكن محاولات البعض في هذا المجال تتجاوز ترجمة الأعمال الكلاسيكية الغربية وتطعيمها بجمل موسيقية شرقية تخلو من النكهة المحلية للمقامات الشرقية.
هكذا، سينصب اهتمامه على تطوير هذه المقامات ومحو ما علق بها من تطريب برّاني، وسحبها إلى منطقة الجدل العقلاني. وسيستغرب مراوحة الأغنية العربية عند حدود التكرار الكلثومي الممل، عدا محاولات طليعية على يد محمد القصبجي ورياض السنباطي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم، الهادفة إلى تخليص الجملة الموسيقية مما علق بها من شوائب.
كان يحلم بكتابة عمل موسيقي ضخم يحاكي طوفان نوح وصولًا إلى اللحظة الراهنة، بكل ما تحمله من هلاك
ننصت إلى " تجليات"، و" باخوسيات"، فنجد مزيجًا من الألحان الكنسية والموالد والأذكار والنكهة الشعبية، تلك التي خبرها في مطلع شبابه في حلب، وإثر تجواله في المقام الشرقي ومحاولاته الحثيثة تفكيكه نحو جدل موسيقي يضاهي التجارب العالمية، وذلك عن طريق إعادة بناء أشكال نغمية مغايرة بمحتوى جديد.
"همجية" الملحنين الجدد التي تشبه فقاعات المياه الغازية كما يقول، ستجد ما يقابلها في تجارب عربية لافتة عاكست التيار بصلابة وبوعي موسيقي خلّاق، مثلما فعل زياد الرحباني الذي كسر أنماط المقام الشرقي واستفاد من تيارات متباينة بعد عجنها وتطويعها، ومثلما أظهرت تجارب منير بشير، ومحمد قدري دلّال، ومحمد عثمان، في العود.
غير أنّ الطرق المسدودة لم تمنعه من إنجاز أعمال لافتة مثل أسطوانته "يا واهب الحب: مدخل إلى الصوفية" عن أشعار خير الدين الأسدي، و"حوار المحبة"، و"الآهات"، و"رؤية"، حيث استثمر في مناخات الشعر الصوفي والابتهالات والتراتيل الكنسية في فضاء موسيقي واحد. كما قام بتنويط الألحان السريانية الشعبية وضبطها في كتابين، وكان يحلم بكتابة عمل موسيقي ضخم يحاكي طوفان نوح وصولًا إلى اللحظة الراهنة، بكل ما تحمله من هلاك.
قبل أن يهاجر نوري اسكندر مضطرًا إلى خارج البلاد، وبعد أن تقطعت به السبل، طوى مشاريعه التي لم يسعفه أحد بتنفيذها. وكان آخرها تلحينه مقاطع مختارة من أشعار أنسي الحاج.
المؤلم أن هناك من لم يسمع باسمه على الإطلاق، فقد كان أي عازف أورغ في ملهى ليلي أكثر شهرة منه.