لم يكن يوم السبت الماضي (20 كانون الثاني/يناير 2024) يومًا عاديًّا في إسبانيا، بل كان يومًا فلسطينيًّا، وهو ما يجب أن يكون عليه اليوم "العادي" في كلّ مكان.
قبل مدّة وصلتني بشكل مفاجئ دعوة للمشاركة في ماراتون شعري تحت عنوان: "شعر من أجل فلسطين، أبيات ضدّ الإبادة". وافقت في الحال، كما على المرء العادي أن يفعل.
أُقيمت الفعالية بالتزامن في أكثر من 35 مدينة، معظمها في إسبانيا، وبعضها في أميركا اللاتينية وبقاع أخرى من العالم. منذ العاشرة صباحًا وحتى العاشرة مساءً، تناوب مئات من الشعراء على قراءة قصائد لشعراء فلسطينيين، وأخرى لهم تتناول حرب غزة، التي "ليست حربًا بل إبادة"، كما صدحت أصوات المتظاهرين على امتداد الجغرافيا الإسبانية في اليوم ذاته. فمن لم يقصد الشعر قصد الشارع، وهناك من قصد الاثنين معًا.
وكما هو متوقع، غلبت على الفعالية قصائد شعراء فلسطين الكلاسيكيين؛ فدوى طوقان، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وجبرا ابراهيم جبرا.. لكن حضرت أيضًا بقوة أصوات شعراء غزة التي حاول الاحتلال إسكاتها عن طريق آلة القتل خاصته، من رفعت العرعير (كنتُ واحدة ممّن قرأوا قصيدته وأمسكوا بخيط طائرته الورقية) إلى هبة أبو ندى، وصولًا إلى شعراء فلسطينيين يكتبون بالإنكليزية ولهم حضور في المشهد الشعري المعاصر، مثل ناتالي حنظل ورفيف زيادة.
وبينما توالت قصائد درويش، عدت بذاكرتي إلى أمسية حضرتها له في حمص 2007، يوم كُنت في أشدّ مراحل حياتي تعلّقًا بشعره. كانت تلك الأمسية حدثًا مهمًا بالنسبة لي، وكانت غزة حينها تحت النار أيضًا. افتتح درويش الأمسية بمقطع صغير مباشر يحكي عن أخٍ يقتل أخاه عن طريق الخطأ. لا بدّ أنّي تأثرت وصفّقت طويلًا وقتذاك. لاحقًا، وبعد أن أكلت حربٌ أخرى مدينتي التي احتضنت تلك الأمسية، كانت علاقتي بالشعر قد تغيّرت، ولم يعد يعجبني بالضرورة كل شيء يقوله شاعر أحبّه، خصوصًا إن كان نبوءة قاتمة إلى ذاك الحدّ.
أعجبني أن أسمع قصائده بلغةٍ ثانية، أراها تدور حولي بالإسبانية بأصوات عديدة، فأسمعها داخل رأسي بصوته وإلقائه المهيب إذ تعود إلى أصلها العربي. أتوقّف عند قصيدةٍ أذكر كم كان يغضبه تعلّق النّاس بها وطلبهم المتكرّر لها، فأقول: يا ربي لو يعلم أن جمهورها ليس عربيًّا فقط. أجل، أستطيع أن أقول بالإسبانية: "سجّل أنا عربي"، عادي. لن تستطيع التخلص منها يا حبيبي. أناديه "حبيبي" وأتذكر أنّي ما زلت فعلًا أحبه. أو.. لا أعرف، ربما أحبّ ما كنتُ عليه حين كنت أحبه بذلك الشكل.
لا أحب أن أعود إلى مدينتي السورية حين كانت تأكلُها الحرب وكنتُ داخلها، لكنّي عُدت مرغمة خلال هذه الأمسية الشعرية
الحبّ... الحبّ أعادني إلى الأمسية ذاتها في العام 2007، تحديدًا إلى امرأةٍ كانت تجلس خلفي، وراحت تصرخ وسط الأمسية مطالبة بقصيدة "أناديكم". هل من حبٍّ أكثر من أن تنسب كل قصائد العالم إلى شاعر تحبّه؟ قد نسمّي ما فعلته المرأة جهلًا. حسنًا، من قال إنّ الحب (في أحد أشكاله) ليس الضلالة بعينها؟
شخصيًّا، لا أعرف متشككًا بجدوى ما يفعله مثل الشاعر. لذا تراه يطرح بلا هوادة هذا السؤال على نفسه: ما فائدة الشعر؟ وإن لم يفعل هو ذلك، فلا بدّ أن يُسألَ مرّاتٍ ومرّات.
في المرة الأولى التي وقفتُ فيها مرتبكةً أمام هذا السؤال، كان عمري فيها صغيرًا وحماسي كبيرًا. والأهم أنّي لم أكن أكتب الشعر بعد، أو هذا ما كنت أظنّه. شعرتُ بالهزيمة لأنّي لم أقنع خصمي بأي حجّة ماديّة، بأيّ رد حاسم. لجأت بعدها إلى صديق شاعر، آملةً أن أجد لديه إجابةً أنسبها إلى نفسي وأرتاح، لكنه اكتفى بالغضب من السؤال ذاته، لأخرج من عنده أكثر ارتباكًا.
ثمّ، بعد الكتابة والنشر، تعرّضت مرارًا للسؤال. وفي كلّ مرّة كنت أبتكر إجابة جديدة، أحرص أن يكون وقعها مؤثرًا لدى القارئ. إذ صارت الكتابة لعبتي التي أعرف كيف أتوارى في مخابئها السرية لو أحببت، لكن هل قلتُ يومًا إجابة أستطيع أن أحملها معي في محفظة جيبي، وأُخرجها بالثقة التي يُخرج بها الناس بطاقاتهم التعريفية ليقدموها للغرباء في لقاءاتهم الأولى؟
أحد الشعراء الإسبان في أمسية السبت الماضي افتتح مشاركته بالسؤال ذاته، وتابع ليقول: لا بدّ أننا حصلنا اليوم على الإجابة.
هل حقًّا وجد هذا الشاعر إجابته أخيرًا؟ هل بات في استطاعته بعد ذلك الشعور بالجدوى، والمشي بثبات أكبر في عالم الكتابة خاصّته؟ إذا كان الأمر صحيحًا فأنا أغبطه بحقّ، لأنّي كنت أشعر طوال الوقت بأنني مُنحت خمس دقائق جديدة أعبّر فيها عن شعوري الدائم بالعجز، الشعور الّذي سبق أن عبرت عنه بطرق مختلفة. فلتكن هذه المرّة من على منبر، وبصوتٍ عالٍ، وبلغةٍ أجنبية.
لا أحب أن أفعل ذلك، لا أحب أن أعود إلى مدينتي حين كانت تأكلها الحرب وكنتُ داخلها. لكنّي عُدت مرغمة خلال أمسية السبت إلى وقت لم أكن أعرف خلاله ما إذا كنت منسيّة تمامًا أم كان هناك شخصٌ ما في هذا الكون الفسيح يفكّر بي. شخص استيقظ في يومٍ ما، اختار ثيابه بعناية أو كيفما اتفق، ثم ذهب لكي يقرأ مقاطعَ لشاعر أحببته. أنا وهو نعلم أن ذلك لم يكن لينقذني، لكنه ربما، ربما.. كان ليضع لمسة على كتفي، لمسةً كنت أحتاجها بشدة.
- ما فائدة الشعر يا نسرين؟
- لا أعرف، ولا أحتاج هذه الإجابة الآن، أحتاج فقط أن تتوقف هذه الإبادة.