اتحاد القبائل العربية واحتواء النزوح الفلسطيني المحتمل

ليس هناك "أفضل" من العرجاني للتعامل مع احتمالات النزوح الفلسطيني، بعد نجاحه في المهام التي أوكلت إليه سابقًا، سواء تلك المتمثلة بتجنيد بعض أبناء القبائل في الميليشيا المساندة للجيش، أو تنظيم رشاوى الخروج من غزة.

في الأول من أيار/مايو الجاري، هبطت في مطار الجورة العسكري، بشمال سيناء، المخصص بشكل رئيسي لقوات حفظ السلام الدولية، طائرةٌ تقل رجل الأعمال ذائع الصيت ابراهيم العرجاني. انتقل العرجاني يرافقه موكب مهيب إلى خيمة في قرية العجرة التابعة لمركز رفح، وتم الإعلان هناك عن تدشين كيان أُطلق عليه اسم "اتحاد القبائل العربية"، بحضور عدد كبير من نواب البرلمان فضلًا عن شيوخ قبائل وعشائر من سيناء ومطروح والصعيد. ثم أعلن الكيان اختيار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رئيسًا شرفيًا له، وأطلق اسمه على القرية التي استضافت هذا المؤتمر الضخم.

انطوى تشكيل هذا التحالف على أهمية بالغة لجهة المكان والتوقيت والشكل. إذ عُقد مؤتمر تدشينه على بُعد بضعة كيلومترات من مدينة رفح الفلسطينية، حيث يتكدس نحو مليون ونصف المليون فلسطيني من نازحي قطاع غزة، وذلك تزامنًا مع إعداد إسرائيل العدّة لاقتحام المدينة وشن عمليتها العسكرية فيها، والتي يُرجح أن تتسبّب في نزوح عشرات الآلاف ــــ إن لم يكن مئات الآلاف ــــ من سكان غزة نحو الأراضي المصرية.

لذلك، لم يكن من قبيل الصدفة أن يذكر البيان التأسيسي لهذا الاتحاد أنه يهدف إلى "تبني القضايا الوطنية والتواصل مع القبائل العربية كافة للوصول إلى قواسم مشتركة في إطار الدولة وخدمة لأهدافها، ودعمًا للرئيس المصري الذي يسعي لحماية الأمن القومي لمصر وأمتها العربية، في مواجهة مخطط التهجير الذي يستهدف تصفية القضية الفلسطينية على حساب مصر".

ومنذ السابع من أكتوبر الماضي، مع بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، لم تولِ الدولة المصرية اهتمامًا بأي قضية كما أولت اهتمامًا بقضية النزوح الفلسطيني نحو سيناء، ما دفع مؤسساتها إلى حشد قوتها الدبلوماسية كاملة لتأمين دعم دولي ضد خيار التهجير، والتلويح بالأوراق التي بحوزتها لمنع وقوعه، وصولًا إلى التلميح ــــ بشكل غير الرسمي ــــ باحتمال تجميد معاهدة السلام مع إسرائيل.

لا يخفى على أحد أن التهجير الفلسطيني إلى دول الجوار أنتج بؤر مقاومة للاحتلال، في لبنان والأردن على وجه التحديد، وهو آخر ما تريده مصر، لأن خيارات التعامل مع هذا الأمر كانت شديدة المرارة. إذ يلوح فيها احتمال "توطين المقاومة الفلسطينية" في سيناء وانضمام جزء من الشعب المصري إليها، كما صار الحال في جنوب لبنان، أو مواجهة هذه المقاومة كما حدث في أيلول/سبتمبر الأسود عام 1970، يوم اشتعلت المواجهة بين الجيش الأردني وفصائل المقاومة الفلسطينية، ثم عام 1975 إثر اندلاع الحرب الأهلية في لبنان وابتلاعها "منظمة التحرير".

احتواء النازحين قد يفتح بابًا لمشاحنات أو مواجهات بين الأجهزة وأبناء القبائل في سيناء، والتي تعيش في الأساس حالة توتر منذ شهور طويلة

ومنذ بداية العدوان، راحت مصرتحتاط لهذا السيناريو، وتغض النظر عن تفاصيل إنسانية كثيرة، حيث قامت بمضاعفة عدد الأسوار والحواجز على طول الحدود بينها وبين قطاع غزة، بل أضافت أسوار جديدة، أشد وأعلى، وشدّدت الحراسة على طول الحدود، وساهمت في إقامة مخيمات بديلة في مناطق أخرى داخل القطاع.

وبرغم سعي القاهرة للحيلولة دون حصول النزوح، فقد وجدت نفسها مضطرة للتعامل مع الأمر بوصفه احتمالًا جديًا. وعلى الأغلب أن هذا التعامل سيتمثل بمحاصرة النازحين في المنطقة العازلة على طول الحدود مع غزة، التي أوجدها الجيش المصري عام 2014، قبل أن تتوسع في مرحلة حربه على الجماعات الإرهابية في سيناء. إذ إنها تعدّ أقرب نقطة مصرية سيبلغها النازحون المحتملون. وهي، في الوقت عينه، المنطقة التي يمكن إحكام السيطرة عليها، والضغط للإسراع بإعادة اللاجئين إليها مرة أخرى إلى القطاع.

غير أن هذا السيناريو يواجه معضلتين؛ أولاهما أن هناك روابط أسرية وعائلية لكثير من هؤلاء النازحين داخل قرى ومدن شمال سيناء. فبالأصل تنقسم غالبية القبائل في هذه المنطقة إلى شطرين، أحدهما في رفح الفلسطينية والآخر في رفح المصرية. ولا يخفى على أحد أن العادات والتقاليد البدوية والقبلية تُلزم أبناء العمومة بواجب الاستقبال والضيافة، وهو ما من شأنه أن يُضعف من قدرة أجهزة الدولة المصرية على احتواء جميع النازحين، وربما سيفتح بابًا لمشاحنات أو مواجهات بين تلك الأجهزة وأبناء القبائل في سيناء، والتي تعيش في الأساس حالة توتر منذ شهور طويلة.

الخطورة الأكبر تتمثل في تكوين ميليشيا مسلحة من حيث المبدأ، والتي أثبتت التجارب العديدة كارثيتها على أمن دول الجوار واستقرارها

أما المعضلة الأخرى فتتمثل بصعوبة (وخطورة) التعامل العسكري والأمني المباشر مع النازحين. فآخر ما يريده النظام المصري أن تخرج صورة لجندي مصري يطلق النار على فلسطيني، أو حتى يعامله بشكل غير لائق، في ظلّ الغضب الشعبي المتراكم بسبب طريقة تعامله مع الإبادة الجماعية الجارية منذ سبعة أشهر ضد شعب غزة، وانصياعه التام لرغبات إسرائيل في ما يخص كمية المساعدات الداخلة إلى القطاع، فضلًا عن عمليات الابتزاز والاستغلال المالي للكارثة الإنسانية عن طريق إلزام من يحاول النجاة من المحرقة بدفع مبالغ ضخمة.

قد لا يجد النظام المصري أفضل من خيار استخدام بعض أبناء القبائل للتعامل مع هذه الحالة الطارئة، خصوصًا بعد نجاحه في استمالتهم خلال حربه على المجموعات الإرهابية في سيناء. وبهذا سيكون قد ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد. إذ سيكون قد جنّب ضباطه وجنوده من التعامل المباشر مع النازحين الفلسطينيين، وضبط أبناء القبائل وقيّد تصرفاتهم.

وما يدعم هذه الفرضية ما قاله المتحدث باسم الاتحاد في بيان تأسيسه، لجهة أن الغاية تتمثل في "توحيد الصف، ودمج الكيانات القبلية في إطار واحد دعمًا لثوابت الدولة الوطنية، ولمواجهة التحديات التي تهدد أمنها واستقرارها". يُضاف إلى ذلك أمر مهم، ألا وهو الغياب الأمني الرسمي شبه التام، وتولي مجموعات تابعة لاتحاد قبائل سيناء والاتحاد الجديد عملية تنظيم المؤتمر وتأمينه.

وبالطبع، ليس هناك أفضل من العرجاني لقيادة هذه المهمة بعد نجاحه في المهام التي أوكلت إليه سابقًا، سواء تلك المتمثلة بتجنيد بعض أبناء القبائل في الميليشيا المساندة للجيش، أو تنظيم رشاوى الخروج من غزة من خلال شركة "هلا للسياحة"، وهذه التجربة تضمن للأجهزة أكبر قدر من الولاء والطاعة وتنفيذ الأوامر.

إلا أن هذا السيناريو ــــ إن صح ــــ سيحمل بين طياته إشكاليات عدّة، بدءًا من استغلال بعض عناصر الميليشيا المستحدثة الظروف الإنسانية الصعبة، وتسهيلها عمليات التهريب أو الابتزاز المالي، وصولًا إلى احتمال وقوع تجاوزات أثناء تعاملهم المباشر مع الغزيين، ناهيك عن الخطورة الشديدة لتكوين ميليشيا مسلحة من حيث المبدأ، والتي أثبتت التجارب العديدة كارثيتها على أمن دول الجوار واستقرارها، بل دورها في بعض الأحيان في تحلّل الدولة نفسها.

معبر رفح في اليوم التسعين من الحرب

ما طبيعة القيود على معبر رفح، شريان حياة غزة، بعد ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على القطاع؟

أحمد عابدين
اجتياح رفح: كابوس مصر الذي تُجاهد لمنعه

تستعد القاهرة للاحتمال المتمثّل باجتياح رفح ونزوح مئات آلاف الفلسطينيين إلى سيناء عبر وضع خطط لاحتواء..

أحمد عابدين
مصر و"حماس": مسار العلاقات المتأرجحة

مع دخول الحرب على غزة شهرها السادس، كيف بلغنا احتمال قطع غزة عن مصر تمامًا؟ وما هي مراحل تحوّل العلاقات..

أحمد عابدين

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة