استعار بعض اللاجئين السوريين مفردة "المنفى" من قاموس لا يخصّ سيرتهم الذاتية. حاول هؤلاء استثمار تركة إدوارد سعيد في هذا الشأن، لجهة الإبعاد القسري عن الأرض الأولى. لكنّ فحصًا بسيطًا لهذه المفردة ينفي مطابقة المواصفات على اللاجئ السوري ممّن ينتمي إلى النخبة الثقافية.
إذ وجد هؤلاء فرصة ثمينة للانتساب إلى الضفة الثانية من البحر الأبيض المتوسط، أرض العسل والحليب بالمقارنة مع صعوبة العيش في بلادهم بذريعة ضيق الحريات والاستبداد والمهانة، وهي حجة صحيحة إلى حدّ ما، لكنها لم تفرز النصّ المشتهى، النصّ المضاد، ذلك المتحرّر من قيود الأمس.
فطوال العشرية السوداء، لم نقع على محتوىً نوعي ينطوي على سردية مفارقة أو يشير إلى عتبة أعلى في تفكيك "أحوال الرعية"، أو يتكئ إلى نظرة سيسيولوجية، إنما هجائيات تعمل على السطح وتخاطب الغريزة لا العقل، من موقع الثأر في المقام الأول. الثأر من التاريخ الشخصي لهذا (المنشقّ) في ظل دولة ما قبل (المنفى)، ومحاولة محو ذلك التاريخ ببهلوانيات لاعبي السيرك.
لا أقصد التعميم بالطبع، لكن عددًا وافرًا ممن طفا على السطح أطاح فكرة اللجوء لمنافع شخصية فور أن أدار ظهره للبلاد وتصرّف بدونكيشوتية وطيش بوصفه فارسًا في محاربة الاستبداد عن بعد، كمن يستعمل الريموت كونترول في توليف المحطات التلفزيونية أو إدارة المعركة بالبيجاما.
هكذا، تمّ تكريس صورة اللاجئ المثقف التي لا تحتاج إلى فواتير فادحة. اللاجئ الذي اخترع مأساةً ما عاشها في الحرب، وهو، كما يقول محمد الماغوط، "لم يدخل مخفرًا في حياته ولم يوقفه شرطي مرور يومًا". هذا الطراز من اللاجئين شكّل ظاهرة في بلاد الفرنجة، ما جعل هذا الكائن يلتهم المنح السخية باختراعه دكّانًا لحقوق الإنسان أو الجندر، أو تدريب اللاجئات في المخيّمات على أداء عروض مسرحية مقتبسة من المسرح الإغريقي لرفع منسوب التراجيديا.
أنعش اللجوء أدبًا ملتبسًا وهو يتأرجح بين حميمية المكان الأول قبل الحرب، وحالة الاغتراب في المكان الجديد
لكن الكارثة الحقيقية تتمثّل بعدد الشعراء والروائيين الذين انتقلوا من صفحات بريد القرّاء في البلاد إلى واجهات المواقع الالكترونية والصحف المهاجرة كصنّاع ثورات تهدّد النظام الاستبدادي ببلاغة الركاكة وحدها، بالإضافة إلى ترجمة أعمالهم إلى لغات شكسبير وموليير وغوته. سيمتطي معظمهم ــــ افتراضيًا ــــ البلم في رحلات خطرة، وهو ما يمكن تسميته بأدب القوارب المطاطية المثقوبة في مغامرات لم يخضها السندباد البحري.
وبصرف النظر عن هذه الخردة، إلا أن اللجوء أنعش أدبًا ملتبسًا وهو يتأرجح بين حميمية المكان الأول قبل الحرب، وحالة الاغتراب في المكان الجديد، ولكن من دون أن يحفر عميقًا في صناعة نصّ أدبي ينهض على رافعة جمالية. ذلك أن الموقف السياسي وحده لن ينقذ الأسلوب.
وتاليًا، فنحن إزاء نص عبور لا نصّ إقامة، فمن بين نحو 200 رواية وعشرات المجموعات الشعرية المكتوبة خلال العقد الثاني من الألفية الثالثة، نكاد نغرق هذه المرّة في مستنقع يصعب فهرسة محتوياته. ذلك أن سرديات هذه الحقبة تتجه تدريجيًا إلى أرشفة أوجاع الهجرة والاقتلاع والمنفى.
مكابدات الهروب من جحيم الحروب والكوارث بأمل النجاة وتنفّس هواء آخر. بلاد محكومة بالاستبداد، وبشر عالقون بين كابوس الوطن الأصلي وحلم عبور الحدود نحو الفردوس الأوروبي. قوارب مطاطية وغرقى بلا أسماء. ناجون يروون حكاياتهم المرعبة، وموتى منسيون: يا إلهي كيف تمكنوا من طهي كل هذه المقادير من باذنجان المأساة، من دون خبرة سابقة؟
ذلك أن ثلاثة أرباع هؤلاء أتوا حقل الكتابة فجأة، ليقينهم بأن الحكايات التي سيروونها عن مكابداتهم في النزوح تستحق التدوين، بصرف النظر عن المهارة السردية المطلوبة، واللغة الموازية التي تواكب حجم الكارثة. أقصد اللغة القلقة، تلك التي لا تركن إلى مستقر بلاغي واضح.
اللاجئون الذين التهمتهم الأسماك أو وحوش الغابات أو عصابات سرقة الأعضاء، لن يروي أحد حكاياتهم بالفزع الذي عاشوه
على المقلب الآخر، نشأ نصّ آخر هو نصّ النزوح الداخلي للأجساد والأرواح كترجيع لتمزّق الخريطة الكاملة للبلاد، كأن يُدفن الموتى من المدن الأخرى البعيدة في مقبرة الغرباء عند تخوم العاصمة برقم بلا شاهدة، في متاهة لا نهائية للنسيان.
فاللجوء الداخلي لا يقل هولًا عن اللجوء الخارجي، وإن بمحمولات اغترابية مختلفة في معنى الاقتلاع. إذ يصعب توصيف حال من هُجّر قسرًا حقلًا من الزيتون ليقطف ثماره شخصٌ آخر، أو من وجد نفسه مشردًا ولجأ إلى التسوّل. والأمر نفسه ينطبق على مهنة الدعارة التي انتعشت على نحوٍ واضح، وتهجير أطفال المدارس للعمل في جمع القمامة.
هناك إذًا مفرمة ضخمة لإحالة اللحم إلى كومة عظام. وقد بدت المسافة شاسعة بين نصّ اللجوء من جهة، ومكابدات اللاجئين الحقيقية من جهةٍ ثانية.
في فسحة مستقبلية ما، ربما علينا إحصاء النصوص المزوّرة التي اخترعها أصحابها لمنافع ذاتية محمولة على هتاف مضاد للسلطة بما يُرضي الجهات المموّلة.
نظنُّ أن 12 مليونًا من النازحين داخليًا يحتاجون إلى وليمة شكسبيرية لتوثيق مأساتهم، أما اللاجئون الذين التهمتهم الأسماك أو وحوش الغابات أو عصابات سرقة الأعضاء، فلن يروي أحد حكاياتهم بالفزع الذي عاشوه.
قضية اللجوء، واشتهاءات المنفى، هما أحد أهم وشوم القرن الحادي والعشرين. وما علينا سوى مراقبة أحوال الجسد المهاجر كلغة بديلة. فنحن نتكلم بأجسادنا بعدما نهبت همجية السلطة أرواحنا جنوبًا وشمالًا.