إيمَتْ بتخلص هيك أحلام، قولتك؟

حنّا وسارة ومحمد لاجئون من سوريا، وسامر لاجئ من غزة. كيف تقاطعت قصصهم بعدما عبروا البرّ والبحر في طريق لجوء وَعِرة أوصلتهم إلى ألمانيا، حيث البقاء "مؤقت"، لكنّ العودة إلى الديار مستحيلة؟

"إيمَتْ بتخلص هيك أحلام، قولتك؟"، يسألني الشاب السوري ذو الأعوام الثمانية عشر الذي وصلَ للتوّ إلى ألمانيا. لم يسأل عن حياته القادمة في ألمانيا، ولم يكن يتكلّم عن أحلام المستقبل. كان في مقعد قريب من مقعدي في القطار، وقرّر الاستعانة بي ــــ لأنه التمسَ أنّني "عربيّ" ــــ لأوصلَه إلى مخيّم اللاجئين "كي يسلّمَ نفسه" لرحلة لجوء، ستمتدّ لسنوات ــــ إن وافقت السلطات الألمانيّة على استقبال لاجئ جديد من "هناك"، طبعًا. 

إنه وحيدٌ في مركبٍ صغير معطّلٍ وسط البحر. لا يرى محمّد حوله إلا ماءً وفوقه سماء تعكسُ لونها. في وسط الماء، يرتجف ويبكي. هذا هو حلمه المتكرّر الذي يعكّر نومه ويوقظه في منتصف الليل مرتجفًا، كما كان في البحر. أيّ جوابٍ ينتظرُه محمّد وما عساني أجيبُ وكانت حرب إسرائيل الإباديّة على غزّة في يومها الثالث؟ وفي الساعة نفسها، كنتُ أتلقى صورًا لبيت رفيقةٍ لي ولشارعها يملؤهما الركام والغبار في شمال غزة؟

"نشالله بعد وقت قصير"، لم أجد غير هذا الردّ. كنتُ أرتجفُ أيضًا. 

ترك محمد ريف دمشق، أو هكذا قرّر أهله: لبنان، فمصر، ثمّ ليبيا حيث اختطفته الشرطة الليبية لشهرٍ واحد و"باعته" مع لاجئين آخرين لعصابة قبل أن يتمكّنوا من الهروب ويلجأوا إلى عصابة أخرى أرسلتهم على متن المركب الصغير. وقد يكون هو ذاته المركب الذي يزور منامات محمد، الذي أراد منّي إجابة مطمئِنة علّه يضع حدًا لتلك الزيارة. 

قبل أيّام من الآن..

"إنّه البحر نفسه"، قاطع حنّا حديث سامر مبتسمًا. وأي ابتسامة هذه؟ وأي بحر؟

هو نفسه بين تركيا واليونان، خاضه الاثنان "معًا"، مع فارق سبعة أعوام. الأوّل سوري وصلَ ألمانيا لاجئًا قبل سنوات، والثاني فلسطيني وصل قبل شهر ونصف الشهر من غزة إلى المدينة الألمانية نفسها. اجتمعنا بسامر على ضفة النهر ــــ صُدفةً ــــ حين لمحَ كوفيّةَ حنّا واقترب ليتعرّف إلينا، إلى من قد تجمعه فلسطين بهم.

لم يحتلّ الجلسة سوى موضوعين فقط.

الأوّل:

سامر يخبرُنا عن غزة وطفولته وأهله في دير البلح بعد نزوحهم من شمالي غزة ثمّ من رفح. ويخبرنا كيفَ تركها قبل يومين من "طوفان الأقصى" حاملًا غضبًا وحزنًا و"الشورت" الذي يلبسه الآن، وهو الشيء الوحيد الذي بقي معه من غزة.

الثاني: 

سارة وحنّا وصديقة أخرى يقدّمون النصائح والإرشادات، بحكم الخبرة والتجربة، التي ستفيدُ سامرَ في اتّباع خطوات رحلتهم قبل سنوات لنيل اللجوء الرسمي في ألمانيا. تخلّلتها قصة عن سكّين يحتفظ بها موظف ألماني في جاروره في "المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين". كان يتباهى أمام أحد طالبي اللجوء السوريين كيف كان يحملها في سوريا، يومًا، ويقتل بها "الدواعش".

وفي الموضوعين، كانت عينا سامر دامعتين، ويتكلّم أو يُصغي مرتجفًا، مثلما كان محمّد لحظةَ عرضَ عليّ سؤالًا لا جواب شافي له أو منطقي. 

سرعان ما يستدرك أصدقائي؛ للأسف، لا بيت يعودون إليه في سوريا، برغم أن كلًا منهم يشتاق إلى ركنٍ ما وتفصيل معيّن

قبل أشهر..

لم يُخبر حنّا شيئًا عن قصّته حين اجتمع بثلاثة رفاق من سوريا في غرفة نومه، بعد سبع سنوات وعشرات الرحلات بين البحر المتوسّط نفسه وغابات شرق أوروبا وبساتين ذرة واعتقالات أو ملاحقات عديدة من قبل الشرطة، وبصمات تؤكّد لجوءهم قبل البصمة الأخيرة هنا. 

يستمعُ حنّا بين اللحظة والأخرى إلى أحاديث رفاقه عن رحلاتهم تلك، كأنّه لم يسلك الدرب نفسها يوم تركَ "البلد". يتابعُ أخبار الحرب على غزة بحزن وغضب. وفجأة، يقفُ غاضبًا إلى جانب النافذة يتحدّث عن الرغبة بالعودة.

ليست العودة إلى سوريا كما يفكّر مرارًا، الآن، بل إلى رحلة سلاحٍ مع المقاومين ضد "إسرائيل". قد تبدو الرغبة عاطفية انفعالية أو ميلًا للعنف حين يَسكَر. ولكن أليسَ لهذا "العنف" تاريخٌ طويل يتجاوز الواقع العنيف إلى لحظة ترك البلد والثورة والحرب وحتى الطفولة، إلى عنفٍ أُقحمَ في حياتنا؟

تأتي أخبار اللجوء السوري إلى أوروبا، عادة، تحت مظلّة أخبار غرق مراكب الهجرة أو أعداد تستقبلها أوروبا أو تغرقها عمدًا. ولكن، لكلٍ قصة قد لا يتوقعها أحد. مركبُ محمد لم يغرق ــــ لا في الحلم ولا في الواقع. هي قصة مركب واحدة وطائرة واحدة وسيرٍ طويل على الأقدام وربّما أحلام واحدة، والأحداث مختلفة.

من يتوقع ــــ وهل كنت أنا أتوقع أساسًا ــــ أن تكون صديقتي السورية التي تعيشُ يوميّات "عادية" هي ذاتها الفتاة التي لم تكن تبلغ 17 عاما حين فُرض عليها أنّ تُصبحَ أمّا لأربعة إخوة صغار في مصر بعد رحلة عبر لبنان؟

انتظرَت سارة معهم أحد عشرَ يومًا، أي المدّة التي خاضت فيها والدتُها البحر الأبيض المتوسّط، دون أن يعرفَ الأبناء إذا ما غدر البحر بها. وانتظرت سنةً أخرى كي تستطيع والدتها "لمّ شمل" العائلة في ألمانيا، منذ تسع سنوات، لخوض رحلة لجوء لم تنته بعد. 

بعد تجلّي الموقف الألماني الرسمي الداعم لحرب إسرائيل (أُدرج التبرير في خانة "المسؤولية الخاصّة تجاه أمن إسرائيل") وتنامي العنصرية تجاه اللاجئين والمهاجرين ــــ العرب منهم تحديدًا ــــ ضاقت الدنيا بأصدقائي أكثر من أي وقت مضى. الرحيل/العودة هي الفكرة البديهية. لكن سرعان ما يستدركون، للأسف، أن لا بيت يعودون إليه في سوريا. كلٌّ منهم يشتاق إلى ركنٍ ما وتفصيل معيّن. والشوق دون لقاء صعبٌ ويظهرُ غصّة في القلب والعينين، أو تعبيرًا ــــ لا أكثر ــــ يتناسونه كي لا يتضاعف الألم. وأحيانًا، تظهر فكرة العودة هذه أحلامًا في منامات أصدقائي.

- إيمَتْ بتخلص هيك أحلام، قولتك؟

ما عساني أجيب؟

- نشالله بعد وقت قصير… حينَ تتحقّق.


ملاحقة إسرائيل أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة: هل ستقبل الحكم؟

بُذلت جهود مختلفة لتقديم شكاوى وأدلة ضد إسرائيل إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة. إثبات المسؤولية الجرمية..

ماهر الخشن
المحرومون من الرعاية الصحية في لبنان

يحتاج حوالي مليوني شخص في لبنان إلى خدمات صحية إنسانية في العام 2022 في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة..

ماهر الخشن
إعادة توطين السوريّين في ألمانيا: رحلة لجوء و"اندماج" عابرة للدول

"بس تطلع بالطيّارة، ما عاد حدا بيعرف عنّك شي"؛ هذا تعبير غازي عن بداية رحلة لجوئه وحيدًا من لبنان إلى..

ماهر الخشن

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة