بجملة واحدة وقاسية، وبلا مقدمات: ليس هناك حل في المدى المنظور لقضية اللاجئين السوريين في دول الجوار، بل وربما ليس في المدى المتوسط أيضًا!
شأنها شأن قضية المعتقلين والمختطفين والمغيبين قسريًا، تشكّل قضية اللاجئين بؤرة جوهرية في الأزمة السورية المتفاقمة. القضية حقوقية دون أدنى شك وترتبط بحيوات أناس في مخيمات لا تصلح إلا لصور في المجلات والصحف!
والقضية إنسانية مرتبطة بأجيال وُلدت وكبرت في أماكن لا تعليم فيها ولا صحة، غير أن السياسة تجب كل ما سبق!
فقرار العودة الطوعية والكريمة والآمنة قرار سياسي أولًا وأخيرًا، برغم كل ما ينطوي عليه من أبعاد حقوقية وإنسانية. وأنا أزعم هنا أن القرار السياسي لم يؤخذ بعد، ولا يبدو أنه سيؤخذ قريبًا. لماذا؟ لأن هناك واقعًا سياسيًا، علينا أن نتفحصه بعناية.
بداية، ما مصلحة السلطة السورية بعودة ملايين اللاجئين إليها؟ وكيف توفر إطارًا لعودة مليون أو مليون ونصف مليون لاجئ من لبنان، وهي ترى في الأمر تهديدًا (قل تحدّيًا إن شئت تلطيف الأمر) سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا لها؟ فاللاجئون في معظمهم ينتمون إلى بيئات شكلت تحديًا سياسيًّا، بل وعسكريًّا للسلطة السورية، بما يعنيه هذا من أن بعض (وربما معظم) العائدين يحمل إرثًا مُعارضًا لا يمكن للسلطة في دمشق أن تتعامل معه.
ثم كيف تتعامل حكومة دمشق مع العبء الاقتصادي الناجم عن العودة المنشودة، وهي تنوء بأعباء من يسكن في مناطق سيطرتها، واقتصادها يئن تحت صخرة الفساد ووطأة "قانون قيصر"؟
زد على ذلك أن اللاجئين سيعودون إلى بيوت مدمرة، أو إلى بيوت يقطنها آخرون، فكيف ستتعامل السلطة مع التوترات الاجتماعية المحتملة عندما يصطدم الساكنون القدامى مع الساكنين الجدد؟ أخذًا في الاعتبار أننا تتحدث عن مجتمعات باتت هوياتها متباينة ولا يعرف بعضها بعضًا. إذًا، فعلى الأرجح السلطة في دمشق لا تريد، ولا تستطيع.
لا حديث عن العودة الآمنة والكريمة والطوعية للاجئين دون اتفاق سياسي على مستوى الإقليم وعلى مستوى سوريا
أما إقليميًا، فالأمر أكثر تعقيدًا. وجود السوريين في تركيا مقلق لأنقرة، فهو تحدّ اقتصادي، وهو تحدّ اجتماعي قد يكون أشد وطأة. فتوزع ملايين السوريين على حدودها الجنوبية يعني مع السنين زيادة الأقلية العربية، مع ما يعنيه هذا من تعميق توترات اجتماعية وهوياتية قائمة حاليًا، ومرشحة للتفاقم مستقبلًا.
لكن أنقرة تدرك أن إعادة اللاجئين إلى مناطق سيطرة المعارضة مستحيلة، في ظل عدم قدرة البنية التحتية هناك على استيعاب الملايين، ما يرشّح لانفجارات محتملة في هذه المناطق، ستصل شظاياها حكمًا إلى تركيا. بالتأكيد تريد أنقرة حزامًا عربيًّا على حدودها الجنوبية، لكنها تريد حزامًا مستقرًّا، لا قنبلة موقوتة!
أما إيران، فهي مهتمة بوضع اللاجئين في لبنان، وباحتمالات التغيير الديموغرافي التي ستهدد حليفها الأبرز ("حزب الله") في حال توطين السوريين في لبنان، ناهيك عن أزمة اللاجئين الفلسطينيين المزمنة فيه. لكنها تدرك أيضًا أن عودتهم تمثل تحديًا كبيرًا لحليفها في دمشق، سيرتب عليه، وربما عليها أيضًا، أعباء سياسية واقتصادية لا تقوى على حملها الآن.
العرب من ناحيتهم، وعلى العكس من إيران، يدركون أن وجود السوريين في لبنان وتركيا أزمة لمنافسين إقليميين. أما وجودهم في الأردن، فلا يشكل فعليًا أي أزمة، لأن اللاجئ السوري في الأردن مصدر اقتصادي مهم، ومعادل ديموغرافي للفلسطينيين، ونموذج اجتماعي مشابه للنموذج في الأردن. ربما كان العرب يستطيعون بقوتهم المالية الدفع نحو العودة الفعلية، لكن لا يريدون؟
أخيرًا، يبدو جليًّا أن لبنان يريد بقوة عودة اللاجئين. وفي حقيقة الأمر ينسحب هذا على جميع القوى السياسية دون استثناء. غير أن لبنان، وجميع القوى السياسية فيه، غير قادرين، ليبقى لبنان اللاعب الأكثر تأثرًا والأكثر رغبة بعودة اللاجئين، لكنه في الوقت نفسه الأضعف في المشهد.
دوليًّا، يبدو الاتحاد الأوروبي الأكثر اهتمامًا مقارنة بروسيا والولايات المتحدة والصين، واهتمامه مرشح للتزايد بعد نتائج الانتخابات الأخيرة التي شهدت صعودًا كبيرًا لليمين، إلى حد سيهدد فكرة الاتحاد الأوروبي برمتها. لكن الاتحاد بحاجة إلى قوة سياسية لإقناع السلطة في دمشق بتسهيل عودة اللاجئين، قوة لم يعد يمتلكها اليوم، ولا يبدو أنه قادر على امتلاكها قريبًا، وخصوصًا فرنسا وألمانيا، اللتين خلقتا واقعًا سيمنعهما من التحدث إلى دمشق، على الأقل من دون توافر حل سياسي يحفظ لهما ماء الوجه، فضلًا عن العوائق القانونية المرتبطة بـ"قانون قيصر" والعقوبات عمومًا.
إذًا، فالأطراف المهتمة بقضية اللاجئين إما تريد ولا تستطيع، أو تستطيع ولا تريد، أو لا تستطيع ولا تريد، ولا يوجد من يريد ويستطيع! فما العمل؟
ينطلق العمل برأيي من التسليم بأن التفكير بقضية اللاجئين وحدها، بمعزل عن سائر القضايا كالعقوبات الاقتصادية، والمعتقلين، والتوافق الإقليمي، والحوار السوري ــــ السوري، نوع من العبث ولا طائل منه. أي يستحيل إيجاد حل جذري لملف اللاجئين قبل وجود حل سياسي ذي معنى.
لكن هذا لا يعني استحالة إيجاد حلول صغيرة موضعية، سواء لتحسين شروط حياة اللاجئين في بلدان اللجوء، أو تحسين ظروف العودة، أو توفير دعم للدول المستضيفة للمساهمة في تحسين شروط حياتهم.
ولا يعني عدم وجود حل سياسي منظور ألا يحصل حوار بين جميع الأطراف في ما يخص اللاجئين (بما في ذلك السلطة في دمشق وسلطات الأمر الواقع في سائر المناطق).
اللاجئون والمعتقلون ضحايا حرب لم تنته بعد، وإن هدأت العمليات العسكرية! ولا حديث عن العودة الآمنة والكريمة والطوعية دون اتفاق سياسي على مستوى الإقليم وعلى مستوى سوريا!
وأما الصراخ هنا وهناك فيبدو في كثير من الحالات متاجرة بحياة لاجئ يريد حياة كريمة ولا يستطيع إليها سبيلًا، لاجئ لا يريده أحد، بما في ذلك البحر!