الوطن بطاقة هوية مهملة

من أنا؟ لماذا أعيش في اللجوء هنا؟ وإلى متى؟ وهل العودة أو المغادرة نحو وجهة ثالثة هي الحل؟ ماذا تعني كلمة "انتماء"؟ ولمن أنتمي حقًا؟

هل الوطن هو بيتنا شبه المتهالك على أطراف مدينة منبج، أم أحواض الورد عند جانبي البوابة؟ هل هو راحتا أمي المتشققتين، أم حزن أبي على محصول الزيتون الذي دهسه الإهمال ودورة الفصول؟ هل هو دم صديقي بسام الذي أُريق دمه بسبب كلمة، أم الفوهات التي صُوبت إلى رأس خالد الذي اختُطف منذ سنوات طويلة؟ هل هو قبر عمتي الذي لم يزره أحد منذ وفاتها؟ هل هو الذكريات، أم ساعات تقنين الكهرباء، أم دقائق حضورها؟ هل هو أنا منفردًا، أم نحن مجتمعين؟

في الصغر، حلمت كثيرًا أني أمرر الأيام بسرعةِ شريط فيديو، لأصل إلى الوقت الذي سأحصل فيه على بطاقة الهوية. كنتُ أظنها مفتاحًا لفك أقفال إدراك معنى الوطن، وسيلة للولوج إلى سوريا التي عرفتها من خلال الأغاني وشارات البرامج التلفزيونية والإذاعية وإعلانات التطوع في جيشها.

إلا أني عندما وصلت إلى الوقت المنشود وحصلت على ذلك المفتاح، وجدته بلا فائدة سوى للتعريف عن اسمي ولوني والعلامات الفارقة التي تميّزني عن بقية التائهين، وأغلب الظن أن تلك العلامات قد تتشابه مع أحدهم، فأتلقّف مصيبة لم أقترفها. هكذا، ركنت المفتاح في محفظتي وأكملت تيهي، باحثًا عن الوطن الذي كبرت على تعريف غسان كنفاني له: "الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".

وها قد حدث ما حدث، وما زلت لا أملك في جعبتي تعريفًا واضحًا له.

خلال حديث مع صديق لي ما زال قابعًا هناك، ضمن حشود الغافلين، يقول ونبرة الثقة تهز المكالمة في ما بيننا: أنا متأكد أننا سنلتقي هنا.. لا بد أن نلتقي هنا.

لم أستطع إخباره بالحقيقة، لذا بقيت صامتًا، واحتفظت بها لنفسي. لم أكن أريد إخباره أنّي تائه بين ثلاثة حروف تشكّل كلمة "وطن"، ولم أجد بعد طريقي لفك شيفرتها. لم أرغب بإطلاق ارتباكي أمامه، فربما يراه انسلاخًا عن جلدي، أو نوعًا من أنواع العته الذي يصيب الشعراء. حتى إنّي لم أشأ خداعه على سبيل المجاملة ببضع كلمات فارغة عن أمنياتي بذلك، فآثرت السكوت فحسب.

*    *    *    *

في الشهور الأولى على وجودي في ربوع بلاد اللجوء هذه، هاجمني حنين لم أشعر به طوال حياتي، ولا خلال تنقلاتي السابقة. حنين الواثق أنه لن يعود يومًا لتطأ روحه أرضًا شيد فيها معظم حياته. حنين وصل إلى حد الدموع. وفي أكثر من مرة خلال تلك الشهور، فكّرت بالعودة، وليحصل ما يحصل، فإن تلقفني موت تحت تراب ألفته خيرٌ لي من حياة فوق هذه التربة الغريبة.

قبل عشر سنوات ونيّف، أثناء مقابلة اللجوء، سُئلت من بين الكثير من الأسئلة: هل ترى أنك ستبقى هنا طويلًا؟

في تلك الأثناء، صار الوطن ترابًا وهواءً وخطوطًا متعرجة على الخريطة، نعم... بهذه السذاجة احتضنتُ الحنين، وأخذتُ أمضي الليالي وأنا أرغب باجتياز أقرب خط حدودي أمامي، والذي لم يكن بعيدًا. فقد كانت المسافة التي تفصلني عن وسط بيتي في مسقط رأسي 55 كيلومتر فقط، كما أخبرني "غوغل إرث" الذي كان نديمي حينذاك.

ثم، يختفي ذلك كله، فقط تبدأ بالاستسلام لكونك لا منتمٍ. لا تراب لك، ولا هواء. حتى الخطوط المتعرجة على الخريطة لا تعود تعني لك شيئًا سوى أنها مجرد خطوط حمراء تحذّر من وجود خطر ما. 

*    *    *    *

قبل عشر سنوات ونيّف، أثناء مقابلة اللجوء، سُئلت من بين الكثير من الأسئلة: هل ترى أنك ستبقى في تركيا طويلًا؟

أجبت: لا أظن ذلك!

كانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أُمسك فيها بطاقة هويتي السورية هنا. عدا ذلك، ها هي مرمية بين مجموعة من الأوراق المهملة في حقيبة لا تُفتح إلا للضرورة.

بعد ذلك الحدث بسنتين، أُعلمت من قِبل دائرة الهجرة أنّي قد غادرت تركيا إلى سوريا. للوهلة الأولى ظننتها مزحة سخيفة أو ربما خطأ فادحًا، فكيف لي أن أغادر وأنا ما زلت هنا؟ إلى أين أذهب وأنا المجرد من الوطن؟

هل عَنت لهم إجابتي عن أنّي لن أبقى طويلًا، أن فترة بقائي قد انتهت؟

هل علموا بحنيني وارتأوا حلًا ناجعًا لمعالجته؟

حملت أسئلتي تلك وتأبطت محاميًا وتوجهت إليهم. بعد تدقيق وتمحيص، تبين أن ملفي انطوى على تشابه في الأسماء أو ربما تشابه في الحنين. وفي النهاية، حُلّ ذلك التشابه.

هنا، لا توجد أجوبة صريحة، ولا حلول مفيدة. مجرد أسئلة تتراكم فوق أسئلة متراكمة في الأصل.

من أنا؟ لماذا أعيش هنا؟ وإلى متى؟ وهل العودة أو المغادرة نحو وجهة ثالثة هي الحل؟ ماذا تعني كلمة "انتماء"؟ ولمن أنتمي حقًا؟

بلا صخب واحتفال، سأدخل قريبًا منتصف السنة العاشرة هنا. إن حصل ورصدتُ ولادة طفل ما على السلك الشائك، سيشبّ خلال أيام فتيًا يفقه الفرق بين الهجرة والتهجير، وبين أن يكون مقيمًا أو مجرد لاجئ بلا قيمة، أو ضيفًا بحماية مؤقتة. وسيكون قد فهم الفرق بين هنا وهناك حتى من دون أن يرى الأخيرة. ومن المؤكد أنه سيكون قد نشأ مطواعًا ليّنًا، يطأطئ رأسه عندما يمرّ بين سكان هذه البلاد، حتى إن امتلك لونهم نفسه. إذ يبقى أنه قد جيء به "من هناك".

لكنّي، على عكسه، بعد هذه المواسم الطويلة، لم أفلح بالتلوّن مثلما تريد هذه التربة الغريبة، ولم أمتلك أوراقًا مثل معظم سكانها. لم أكتسب لسانًا يساعدني على مخاتلة مصائبها. عزائي الوحيد أنّي سأجد يومًا ما أجوبة لكل أسئلتي، أو أن أهاجر نحو مكان آخر أجد ضالتي فيه.

قبل فترة وجيزة، طُلبت مني صورة عن بطاقة هويتي السورية. لذلك السبب اضطررت لإمساكها مرة ثانية. مباشرة هبت رياح الحنين. أو لعل أسئلة التيه نبتت من البطاقة لتطوّق روحي. عندها، وللحظة، فكرت أنها تعريف ملائم للوطن. نعم، الوطن هو تلك البطاقة المهملة التي لا نضطر لإبرازها، إلا لتأكيد انتمائنا لرحم التيه السوري.


جامع الخردوات الرقمية

بشراهة صبي لا يملك أي شيء في الحياة، حاولتُ اكتناز كل شيء في بيروت. حفظتُ الدروب والأبنية ووجوهَ المارة..

حسين الضاهر
أرواحُ بيوتنا عادت لتنتقم

منذ أن وطأتُ ضيفًا، غير مرحب به، في هذه البلاد، اكتسبتُ جينات اللجوء التي تشبه ــــ لجهة الترحال ــــ..

حسين الضاهر
زمن الفساد الجميل

في تركيا متاهات لم يخلقها فساد يجري مجرى الماء في المواسير، بل بيروقراطية متصلبة، وقوانين لا تحتمل..

حسين الضاهر

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة