في أعلى قائمة الأشياء التي لم أُطقها في حياتي ولن أتأقلم معها أبدًا، تتربّع المعاملات في الدوائر الحكومية، وتمدُّ لسانها لي بخُبث. إذ لي باعٌ مرير من الوقوف في الطوابير، ولدي صعوبة في فهم مجريات الفساد ومبادئه، برغم كوني مواطنًا أصيلًا في إحدى البلدان التي يجري فيها الفساد مجرى الماء في المواسير.
عام 2005، كنتُ عائدًا للتو من لبنان، ذاك البلد الذي لا يمكن لفتىً مثلي حينها أن يكتشف فيه الواسطة والمحسوبية والرشا المعشّشة في ردهات دوائره الحكومية. فقد كنت أظن أن هناك فسادًا احترافيًا لن ألحظه، وربما يقتصر على أعلى أهرامه فقط. عدتُ إلى سوريا وقد حان موعد البدء بمعاملة "الوحدانية" لتأجيل خدمتي العسكرية.
ولأنّي لم أقابل الفساد وجهًا لوجه قبلًا، ركنت نفسي في رتل شعبة التجنيد، كأي مواطن مدني شريف. إلا أنّي عوملتُ كمجنّد مهان، برغم الملف الضخم الذي تأبطتهُ، والذي يقول في معظم صفحاته أنّي وحيد لوالديّ باعتراف دائرة النفوس، ومخفر الشرطة، والمختار، والقابلة، وأربعة شهود، وأمي، وأبي، والله يشهد على ذلك أيضًا.
هناك تلقّيت من الضرب ما تلقيته، ومن الشتائم ما يكفي، ومن تكرار الدوام في الطابور ما يسدّ النفس. وفي يوم من تلك الأيام المريرة، اقترب مني مجنّد في الشعبة، طلب ملفي ونظر إليه بعين المتفحّص الراغب في المساعدة، ثم أشار إليّ بصوت لا مبالٍ طالبًا منّي أن أضع في الملف خمسمئة ليرة إن كنت أرغب بإنهاء معاناتي التي بدأت منذ أوّل ورقة. من المؤكد أنه فعل ذلك بعدما صرت ماركة مسجلة لديهم.
وهذا ما حصل، بعدما أبديت استعدادي، سُحبتُ من منتصف الطابور كالشعرة من العجين، وأُدخلت غرفة المساعد المسؤول على مرأى مئات العيون المرهقة والحاسدة في الوقت نفسه، وبشحطة قلم انتهت معاناتي الطويلة.
بعد ذلك اليوم، صرت صديقًا ودودًا للفساد. ففي كل عام كان عليّ تجديد معاملة "الوحدانية"، كنت، من دون أخذ ورد، أباشر بدس التسعيرة "المعترف بها" بدءًا من المختار وليس انتهاء بالشهود الأربعة الذين اعتادوا أن "أعشّيهم" كلّ عام. أعمل طوال السنة وأقتطع جزءًا من راتبي الشهري في كل مرة لحساب تلك المعاملة، التي أباشر بها منذ الشهر الأول.
* * * *
منذ سنوات قريبة، وقد كان وقتًا من الرخاء حينها، كتبت نصًا سرديًا يحكي بأننا مجرد أوراق على شجرة هذه البلاد، ومن المؤكد أن خريفًا ما سيمرّ ويسقطنا عنها. ربما كانت تلك نبوءة لما سيحصل.
ففي الآونة الأخيرة، مرَرتُ بسَنة تعيسة للغاية، كنتُ فيها مجرّد ورقة على الشجرة التركية، وكدتُ أسقط أكثر من مرة. سنة متخمة بالمعاملات الإلكترونية التي لا تنتهي، وبالطوابير الرقمية. في الحقيقة هي معاملة واحدة، لكنّها تتشعّب كالمتاهة في البرنامج التلفزيوني القديم "مسابقات الحصن". فإما يُسعفني الحظ وأخرج من باب إلكتروني لأعود إلى حياتي مجددًا، أو أفتح بابًا ينتهي بي على الطرف الآخر من الحدود.
يجاهد كثر للخروج من هنا، من مستنقع البيروقراطية المتقدمة التي تحثّنا دومًا على أن نكون روبوتات، لا نخطئ، لا ننسى، ولا نتعثر
يقول القانون هنا إنّي، كضيف، لا بد أن أحدّث بياناتي لدى الدولة المستضيفة باستمرار، وإلا فلن أتمتّع بالحماية المؤقتة. غير أنّي أستغرب هذا القانون. فأنا كما أنا، محاصر في المدينة التي أسكنُها منذ سنوات، في العمل نفسه، بوجهي نفسه، وبصمات أصابعي نفسها. لم يتغيّر شيء سوى نفسي من الداخل، والتي باتت أكثر تعبًا من أي وقت مضى.
في معاملتي الأخيرة لتحديث البيانات، حيث جُمّدت بطاقة حمايتي قبلها، طُلب مني أن أُحضر من بين كثير من الأوراق عقدَ إيجار مصدّق. ولأن بطاقتي مجمدة، فلا يمكن الحصول على هذا العقد. ولكي أحصل عليه، لا بد أن أُعيد تحديث بياناتي. ولكي أُعيد تحديثها لا بد أن أحصل على عقد إيجار، وهكذا...
نعم، هذه إحدى المتاهات التي تحدّثت عنها، وهناك متاهات أوسع لم يخلقها فساد يجري مجرى الماء في المواسير، بل بيروقراطية متصلبة، وقوانين لا تحتمل مراعاة إنسانية أو أي حقائق غير مقيّدة في ذواكر الحواسيب.
يحدّثني صديقي بأنه يسعى إلى تحديث بياناته أيضًا، لكنه لم يجد إلى الآن بيتًا بعنوان متاح لاستئجاره، إذ إن معظم أحياء المدينة خاضعة لقانون الحظر الذي يمنع سكن أكثر من عشرة في المئة من اللاجئين مقابل تسعين في المئة من المواطنين. وبيته القديم خُلق بعلّة لا يمكن حلّها بحسب قوله، فالبطاقة الرقمية التي يُفترض أن يتم تثبيتها على باب البيت تبعد نحو نصف متر عن مكانها، ويختلط الأمر في البلدية التي يعتقد موظفوها أنّها قد تكون تابعة لمنزل الجيران.
حدّثني بذلك وهو يضحك بمرارة، ويردّد: "يرحم أيام الفساد الجميل، كنت أقدر أحل كل هالمشكلة بكم ليرة".
لو كان ابن خلدون معاصرًا لهذه القوانين، لا أدري في أي طور من الأطوار كان سيُدرج الدولة!
صديق آخر خرج من هنا منذ سنة لاجئًا إلى فرنسا، وفي خضم انشغاله بمعاملة اللجوء، نسي يومًا إحدى المقابلات المنتظمة التي يُفترض أن يخضع لها في البلدية. يقول إنه تم تأجيل المقابلة لثلاثة أشهر أخرى لمجرد غياب الموعد عن ذهنه. ويكرّر ما قاله الصديق الأول.
وبينما يحاول كثير من رفاقي وأقاربي الهروب من تحت صنبور الفساد في سوريا طمعًا بحياة أفضل، يجاهد كثر للخروج من هنا، من مستنقع البيروقراطية المتقدمة التي تحثّنا دومًا على أن نكون روبوتات، لا نخطئ، لا ننسى، ولا نتعثر. فقط نترحم على زمن الفساد الجميل.