منذ الصغر، تمتّعت بموهبة الاكتناز، وسمّيتها "موهبة" برغم تصنيفها عالميًا كاضطراب نفسي، وبرغم معاناة كلّ من عشت معهم، بدءًا من أمي التي كانت تشبّه غرفتي بالمزبلة، مرورًا بأصحابي، وانتهاءً بزوجتي التي تتمتع بهوس التخلّص من كل شيء يخصّني يقع أمام ناظريها. حتى إن معظم مشكلاتنا العائلية كانت تنطلق من هذا الاختلاف في الاضطرابات، والتي تنتهي بمقولتها الساخرة: "كان عليك أن تتزوج أنثى غراب".
ولكوني عشت في منطقة ريفية فقيرة، فقد اقتصرَت بداياتُ اكتنازي الطفولي على ريش ملوّن فريد في شكله، أو عصا نحتَتها عواملُ الطبيعة بحرفيّة، أو حصى شكلها غريب، وغالبًا ما كنتُ أحتفظ بثيابي لسنوات بعد اهترائها.
وبينما كنتُ أكبُر عمرًا، كان اكتنازي أيضًا يكبُر ويتحوّل نحو أشياء أخرى، كالأصدقاء مثلًا. أردتُ جمع أكبر عدد منهم، لي وحدي، من كل صنف ومشرب، وأعداء أيضًا، لم أرغب بالتخلص منهم تحت أي ظرف. وبهذا الصدد، كثيرًا ما نُظر إليّ بوصفي غريب أطوار وأحيانًا مجنون. لكنّي لم أكترث، بحكم أنّ ما أفعله ـــ مثله مثل التدخين ـــ لن يؤذي أحدًا سواي.
في الخامسة عشر من عمري، وكمعظم فتيان ريفنا، ابتُعثتُ إلى بيروت. لم يكن سفري حينذاك قد أخذ طابع السياحة كما قد تظنون، بل كانت غايتُه العمل وإعالة العائلة. هناك، نال مني كل شيء، فحاولتُ فتحَ كيس ذاكرتي على الفور لتخزين كل ما تراه عيناي.
بشراهة صبي لم يكن يملك أي شيء في هذه الحياة، حاولتُ اكتناز كل شيء منذ اللحظة الأولى. حفظتُ الدروب والأبنية، وأسماء الشوارع والمحلات المرصوفة على جنباتها، ووجوهَ المارة وبوسترات الأفلام على واجهات دور السينما، كما بدأتُ بالتقاط أي خردة أو قطعة ورق من الأرض.
حاولتُ الاحتفاظ بكل شيء استطعتُ الحصول عليه، من دون أن أعي فائدة ذلك. فقط أخرج يوميًا إلى عملي، وأبدأ بالتقاط الصور في مخيلتي ولملمة الأشياء عن الأرض ومن مستوعبات القمامة ومن أمام المحال والبيوت.
رُحتُ ألملم فوارغ الرصاص وشظايا القنابل بعد كلّ قصف، وأسماءَ الموتى وأعدادهم كما لو كنتُ جامع أدلة
أمضيتُ على هذه الحال شهورًا عديدة، حتى صارت الغرفة التي استأجرتُها بعد الإقامة لشهرٍ واحد عند إحدى خالاتي مكبًا للخردة. تجد فيها المجلات والكتب القديمة، والصحف اليومية التي كنتُ أسرقها من أمام المحال في الصباح الباكر، فضلًا عن ثياب مهترئة، وزجاجات فارغة، وتلفزيونَين معطّلين، وعُلب سجائر فارغة من جميع الماركات والأشكال، وكلّ شيء يمكن لعقل واعٍ أن يتصوره ولا يتصوره.
وكنت في كل مرة أعزّي نفسي بأن كل ما جمعته سيكون مقتنيات لي في حال عدت إلى ريفنا القاحل. ربما كان في نيّتي إنشاء مدينة موازية في بيتنا، مدينة تشبه بيروت إلى حد ما، أو على الأقل، عالم صغير موازٍ لعالمي هناك.
إلا أنّي للأسف فشلت، فقد كانت عودتي مفاجئة... مكالمة هاتفية قصيرة من أبي يُعلمني فيها بمرض أمي، أو ربما تحجّج بذلك قاصدًا إعادتي فقط. تركتُ كلّ شيء خلفي، حتى ثيابي الخاصة، وخرجتُ ظنًا أنّي سأعود بعد وقت قصير لمتابعة جمع مقتنيات عالمي الخردوي أو جلبه إلى مدينتنا، وهذا ما لم يحصل.
نسيتُ كل ذلك، وأكملتُ حياة باهتة إلى أن تعثّرت يومًا بالقراءة، فرُحت أكمل اضطرابي باكتناز الكتب بشغف مفرط، كتب من جميع الاتجاهات والأنواع الأدبية والتاريخية والعلمية والدينية والإلحادية. بقيتُ مواظبًا على الجمع إلى أن اكتنزتُ زوجة وأولادًا أيضًا.
لكنّ هوَسَ الحرب السوريّة في التخلص من كل شيء، حالَ بيني وبين ممارسة اضطرابي براحة هذه المرة أيضًا، وأوجَدَ فيّ اضطرابًا آخر فظيع؛ إذ رُحتُ ألملم فوارغ الرصاص وشظايا القنابل بعد كلّ قصف، وأسماءَ الموتى وأعدادهم كما لو كنتُ جامع أدلة. إلا أنّي لم أتمكّن من إعادة أيّ منهم إلى الحياة، ولا أردتُ بناء عالم من هذه الخردة القاتلة. فاجتزتُ الحدود هاربًا بكيس يتيم لا يحوي أيّ شيء اكتنزته. وقطعتُ عهدًا على نفسي بأن لا أعود مجددًا إلى هذه العلة النفسية، لأن تبعات خيبة الأمل فيها كادت أن تحطمني أكثر من مرة.
امتدّ ذلك إلى أن استفقتُ يومًا في عالم آخر، يسمونه عالم الكتابة. ذُهلت به أيضًا بقدر ما ذُهلت بالريش والحجارة، وببيروت والكتب والشظايا، بل ربما أكثر. إذ إنّ هذا العالم أوسع مساحةً وأكثر دهشة، يعيش فيه أناس أكثر، وفيه مساحات شاسعة لتشييد المدن التي نفضّلها بأقل جهد وبحرية أكبر، برغم أنه أكثر هشاشة من عوالم سابقة.
ومثلما فعلتُ هناك، أفعل هنا أيضًا: لدي مئات الملفات، تحوي كتبًا إلكترونية أحتاج لعشرة أعمار مثل عمري لأُنهي جزءًا بسيطًا منها، لديّ آلاف الصور واللوحات التي لم أجد حتى وقتًا للنظر إليها. لدي هياكل نصوص سُحبت محرّكاتها وباتت بلا فائدة، ونصوص عتيقة لأصدقاء سبق أن نشروها، وأغلب الظن أنهم نسوا وجودها في هذه الحياة. لدي نصوص مكتملة ربما ينقصها برغي هنا أو عزقة هناك، ونصوص لامعة كنتُ قد وجدتُها مرمية في كتب، ربما لا يعلم بوجودها أحد، ولدي الكثير الكثير من المقالات والومضات...
يتفاخر أحد أصدقائي بجلب ما اقتناه طوال حياته معه عندما دخل هذه البلاد ـــ تركيا ـــ جوًا. ويشبّه نفسه بالطائر الذي نقل عشه قشة قشة. أما أنا، فأقف أمامه في خضم ذلك الحديث بحسرة دجاجة جاءت إلى هنا على قدميها.
نعم، أنا الآن مجرّد جامع خردوات رقميّة. لا أعلم إن كنتُ سأوفّق في المحافظة على كنزي هذا، أم أنّ كبسة زر فحسب... ستُنهيه بالكامل من الوجود.