7 أكتوبر الذي أيقظ هويتنا!

في التاسع من أكتوبر الماضي، عادت ابنتي من المدرسة محبطة ومكتئبة: "لا أشعر أنّي أفهمـ(هم)، لا يدركون آلامنا، لا يفهمون أسباب ما جرى. أنا سورية وعربية ولا أشعر بانتماء لهذا البلد".

لا هوية دون آخر! الآخر الذي نتمايز عنه، بلهجتنا أو لغتنا، بثقافتنا أو بطبقتنا. ولا هوية وطنية دون آخر نتمايز عنه بتاريخنا وأرضنا ولغتنا وثقافتنا...

فالحمصي والحموي يحتاج أحدهما الآخر، وكذا الحلبي والدمشقي، والديري والرقاوي، كي تُثبّت الهوية المحلية. وسيحتاج اللبناني إلى السوري، والإيرلندي للإنكليزي، والإنكليزي للأوروبي، والفرنسي للألماني كي تُثبّت الهوية الوطنية.

نحن بحاجة إلى آخر نتمايز عنه، كي نفهم أنفسنا وندرك تشابهاتنا. نتمايز عنه لا أن نتفوق عليه! وما بين الاعتزاز بالهوية، وشعورنا بالتفوق لمجرد حيازتنا هوية ما، صراط يفصل النبل عن اللؤم، ويفصل الوطنية عن الفاشية! صراط يفصل بين هوية تجمع الناس على قيم وتاريخ ومصالح، وأخرى تجمعهم على كراهية الآخر. صراط ستتّضح معالمه يوم 7 أكتوبر.

هناك انطباع رائج في أوساط النخب السورية مفاده أن الهوية والمواطنة متعارضتان، وأن الحقوق منفصلة عن الهوية، وأن المواطنة والحقوق هما الأساس، لا الانتماء والهوية.

في حقيقة الأمر، لا حقوق ولا مواطنة دون هوية. فهوية المجتمع ستحدّد سلوك الدولة نحو مواطنيها؛ فأي لغات ستُدرّس في مدارسها، وأي أيام ستعطّل فيها، وأي رموز ستخلّد، وأي طقوس اجتماعية ستحتفي بها؟ كل هذا تعبير عن هوية المجتمع وتكريس لحقوق الأفراد، بوصفهم جزءًا من جماعة أو جماعات. والمواطنة لا تتحقق إلا باعتراف حقوق جميع الأفراد، دون استثناء، وحقوق الجماعات التي ينتمون إليها دون استثناء أيضًا.

كانت أوروبا تسعى إلى تحقيق ما تسميه "سياسات الاندماج"، التي يُراد من خلالها "دمج المهاجرين الجدد" في منظومتها السياسية والحقوقية، على قاعدة أن الجنسية تعني المواطنة، وأن ليس هناك ما يمكن تسميته بـ"جماعة السوريين" أو اللاجئين. يكفي أن تحصل على الجنسية وتتعلم اللغة لتصبح مواطنًا كامل الحقوق. لك ما للألماني أو الهولندي أو الأوروبي، وعليك، كسوري مثلًا، أن تتنازل عن جنسيتك عندما يتاح لك ذلك، لكي تصبح ألمانيًا "كامل الألمانية". وكدنا نصدق كل ذلك، إلى أن جاء يوم السابع من أكتوبر.

كنا حين نشكّك بسلوك "الرجل الأبيض" المتعالي، يعيدنا البعض إلى سلوك الفاشيات العربية، كأنما يتعيّن علينا أن نختار بين فاشية وأخرى

استيقظنا ذلك اليوم على حقيقة مفادها أنك لن تُرى إلا سوريًا أو عربيًا أو من جنوب العالم: نحن سوريون، أو عرب، أو كرد، ولو خرجنا من جلدنا. كانت حكومات "بلادنا" الجديدة ترانا لاجئين، لا مواطنين، حتى بعدما حصلنا على الجنسية. بل قل صرنا نُرى مهاجرين خطرين، لأننا قد نكون "معادين للسامية" ــــ وفق تعريفهم للسامية ووفق تعريفهم لمعاداتها بالطبع ــــ وخطرًا على ثقافة أوروبا. بل أجرؤ على القول إننا كنا في عيون كثر منهم إرهابيين محتملين!

المأساة الأخرى تكمن في أن بعض نخب سوريا والعرب كانوا يحاولون إقناعنا بأن أوروبا لا تكترث للهوية، وبأن جميع المواطنين والمواطنات فيها متساوون ومتساويات في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الدين والجنس والعرق والرأي السياسي. وكنا عندما نشكّك بسلوك "الرجل الأبيض" المتعالي، يعيدنا هؤلاء إلى سلوك الفاشيات العربية. كأنما يتعين علينا أن نختار بين فاشية وأخرى؛ بين فاشية تشيطن كل ما هو غربي، وفاشية تزدري كل ما هو جنوبي!

وإذا كان هذا الانطباع قد ساد لسنين طويلة، فإنه تعرض، على الأقل، لهزة كبرى بعد 7 أكتوبر والحرب الهمجية على فلسطين والفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

كانت لحظة 7 أكتوبر لحظة حقيقة أمام اللاجئ السوري، بل أمام الجنوب العالمي بأكمله. فالغرب الأوروبي والأميركي، غرب الحقوق والمواطنة والحرية والمساواة المفترضة، لم يكن سوى غرب الحقوق والمواطنة والحرية المشروطة بتبني كامل منظومته القيمية والأخلاقية والحقوقية، وحق التظاهر فيه محمي للمدافع عن إسرائيل التي ترتكب جرائم حرب، وليس لمن يدافع عن الضحية!

هرب اللاجئ السوري من لؤم الحرب والمتحاربين ومن "آخر" يشاركه الوطن أراد إلغاءه وإلغاء ثقافته وهويته وحقوقه، إلى ما ظنه نبل الحضارة والحرية والحقوق. هرب من فاشية بنكهة سورية، ليصطدم بلؤم فاشية أوروبية بأوضح صورها!

في 7 أكتوبر تعرّى إحساس بعض الغرب بالتفوق تجاه "الآخر"، وهو تفوّق موهوم سيجعله يخسر أجيالًا من الذين لجؤوا إليه مؤمنين بمنظومته القيمية

لكن ربما كانت لحظة الحقيقة هذه لحظة حقيقة لنا، نحن السوريين، مفادها أننا حقًا سوريون، وأن لنا هوية وطنية لن تنتزعها سياسات اندماج ولا قمع ينتقص من مواطنتنا في بلادنا!

نعم، ربما كانت هويتنا الوطنية السورية ضعيفة عندما كنا في سوريا. نعم، كنا نريد أن نكون جزءًا من المجتمعات التي لجأنا إليها، وربما ما زلنا نريد. لكننا نريد أن يفهموا أننا سنبقى سوريين، بأعيننا قبل أعينهم. اندماجنا بالمجتمعات المستضيفة قائم على احترام ثقافتنا وهويتنا وقضايانا وقضية فلسطين واحدة منها، بل وأولها لجزء كبير منا.

نعم، أيقظ يوم السابع من أكتوبر هويتنا، يوم أضعفتها الحرب والمتحاربين، ويوم أراد لها الغرب تحديدًا أن تموت! يوم تعرّى إحساسه بالتفوق تجاه "الآخر" وظهرت رغبته بإلغائه، وهو تفوّق موهوم سيجعله يخسر أجيالًا من الذين لجؤوا إليه مؤمنين بمنظومته القيمية المفترضة.

بالتأكيد، ليست هذه دعوة للعداء مع الغرب، بل رغبة برد عداء بعض الغرب بوقفة صلبة تقول: احترموا تمايزنا كي نحترم تمايزكم!

في يوم الاثنين، التاسع من أكتوبر، عادت ابنتي من المدرسة محبطة ومكتئبة.

"لا أشعر أنّي أفهمـ(هم)، لا يدركون آلامنا، لا يفهمون أسباب ما جرى. أنا سورية وعربية ولا أشعر بانتماء لهذا البلد". قالت ابنتي ما قالته بعدما فوجئت بأن المدرسة قررت تخصيص الحصة الأولى للحديث عن الهجوم "البربري" الذي شنته "حماس" على "إسرائيل".

كانت هذه الجملة بمثابة الإعلان عن فشل جهود "الاندماج" التي بذلتها ألمانيا مع هذه اللاجئة، التي وصلت إلى ألمانيا قبل اثنتي عشرة سنة بعمر السادسة، وتَشكّل وعيها فيها.

كانت هذه اللحظة، بالنسبة لي، الإعلان عن سقوط سياسات الغرب المتعالية، ولحظة سيتذكرها السوريون والعرب والألمان زمنًا طويلًا طويلًا!


هل نحتفي بالحياة بعد كل هذا الموت؟

لماذا كان على رئيفة سميع أن تموت قبل أن نقول لها إن اختلافنا في السياسة لا يفسد حبنا لك، وقبل أن نتذكر..

زيدون الزعبي
سويداء "الوطن للجميع" وحدودها الخمسة

هل ما قام به جزء من المشاركين في حراك السويداء تأكيد على هوية محليّة منسجمة مع هويّة وطنية جامعة؟ أم أنه..

زيدون الزعبي
اللاجئون السوريون في دول الجوار: من يريد؟ ومن يستطيع؟

الأطراف المهتمة بقضية اللاجئين السوريين إما تريد ولا تستطيع، أو تستطيع ولا تريد، أو لا تستطيع ولا تريد،..

زيدون الزعبي

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة