تقول الحكاية إن رجلًا غادر وطنه حين اشتدّت الحرب ولجأ إلى بلد بعيد. تعلّم لغته، عَمِل ودفع قِسطَه من الضرائب، أحصى ليالي طويلة وأيامًا هانئة وأخرى قاسية. حصل على الإقامة الدائمة ثم على جنسية وطنه الثاني. تَشَبَّهَ بأمثاله من المواطنين وعزّز اندماجه وأسرته في الثقافة الجديدة. أحبّ أن يقضي إجازة عائلية في بلدٍ ساحليّ مجاور. وهناك، على شاطئ البحر، باغته الموت ولكن من دون أن يضع نقطة النهاية. رحلته مع العذاب والذلّ والتشظّي بين البلاد لم تنتهِ، بل ربما بدأت بعد وفاته تمامًا.
حسنًا، لم يكن ما سبق إيجازًا لرواية قرأتُها، ولا مسوّدة لقصة قصيرة أحاول ارتجالها معكم هنا. بل هو خبر صحفيّ حقيقي عن رجل سوريّ من حلب، غادر مدينته التي أحبّها وانتمى بصدق إلى شوارعها ونواديها الرياضية ونشاطاتها وناسها. اتجه صوب كندا، وتابع رعاية ولدَيه وشؤون دراستهما ومستقبلهما. استحقّ بعد سنوات من الإقامة الجنسيةَ وجواز السفر. ذهب مع أسرته الصغيرة لقضاء بضعة أيّام في كوبا. وهناك، تحت شمسٍ غريبة وعلى رملٍ غريب، داهمته أزمةٌ قلبيّة ليغادر هذا العالم من بقعةٍ لا تربطه معها أيّة ذكرى أو انتماء، ولتبدأ فصولُ اغترابٍ جديد أفظع وأشرس!
انشغلتْ أسرته بترتيبات نقل الجثمان والصلاة عليه والدفن والوداع. وتَقَرّرَ سريعًا أن كل شي سيتمّ في كندا، حيث تعيش الزوجة والولدان، وحيث الحياة الجديدة والعائلة والأصدقاء والوطن الجديد. معاملاتٌ وأوراق وتصاريح تُنسي المحزون مصابَه. شرطة وأجهزة أمنية وشركات تأمين وطيران وتكاليف مرعبة، ووقتٌ يطولُ ويزيدُ من عذاب أهل الراحل ويؤرّق بالهم. وبعدَ لَأي، تحدّد كل شيء ووُزّعتْ مناشير النعي.
وصل التابوت المُغلَق. وما إن همّ المعنيّون بفتحه لإلقاء سلام الوداع الأخير حتى حلّتْ الكارثة: شابٌّ نحيلٌ أشقر بوشوم تغطّي جسده، توحي ملامحه بأنه روسيّ لم يتجاوز الأربعين من عمره، مُسَجّى في نعش الرجل الحلبيّ الستيني وسط عويل الأهل وذهول الأصدقاء! من هذا؟! أين فقيدُنا؟ أين عزيزُنا؟ أين الزوج والوالد والأخ والصديق الذي يترجّى ذووه دفنَه دفنًا لائقًا لترتاح روحه وتهدأ أرواحهم؟ أين "فرج الله"؟
السوري أنّى وجد، في الوطن والمهجر والمنفى، يقلقه سؤالٌ يُطرَحُ كلّما اجتمعَ سوريّون: مَن سينشغلُ بأمر موتنا؟ وكيف؟
الفقيدُ صار مفقودًا! والرحلة الأصعب لم تكن رحلة عودة أفراد الأسرة من العطلة وقد نقصوا فردًا، ولا رحلة الجثمان بين الموافقات والتعقيدات الإجرائية والمواصلات، الرحلة الأصعب والأقسى هي رحلة البحث عن جسد الراحل بنفوسٍ يكسرها العجز والضياع، وهواجس يزكّيها الهمّ والاحتمالات الموحشة، وقلوبٍ يحرقها الأسى.
أنكرتْ السلطات الكندية مسؤوليتها عن أي شيء. وادّعت كوبا أنها أتمّتْ ما عليها، وأن الجثمان المطلوب شُحِنَ من أراضيها بحسب الاتفاق، وألّا عِلْمَ لها بمصيره بعد مغادرته حدودها. المأساةُ مستمرّةٌ إذن! ولوعة الموت المفاجئ سَخُفَتْ أمام هذا المُصاب الرهيب!
مرّتْ أسابيع على تلك الحادثة ولم يطرأ جديد. وقتَها، كنتُ أعيشُ فَقدًا آخر على مستوى شخصي. توفّيتْ والدة زوجي عن سبعةٍ وستين عامًا فقط. رحلتْ في حمص، مدينَتها الحبيبة التي ولدتْ وعاشتْ فيها ولم تعرف غيرَها يومًا.
أستعيدُ الآن بعض التفاصيل: خرجَ جثمان الراحلة من بيتها في الضيعة (ضيعة زوجها، حيث تدفن المرأة في مدينة زوجها أو قريته بحسب الأعراف المحلية). خرجتْ في تابوت خشبيّ أنيق مزيّن بالورود البيض. مشتْ أمامَ النعش فرقةُ كشاف الضيعة وهي تعزفُ أناشيد الوداع. ومشى خلفَه أبناءُ الفقيدة وأُسَرُهم والأقرباء والأصدقاء وحتى الغرباء من أهل القرية جَريًا على ما تبقّى من سُنَن عاداتنا الجميلة في إبداء شيء من التعاطف الاجتماعي مع الناس.. كلّ الناس.
صلّينا معًا، وعدّد الكاهن مآثر الراحلة على مسامع الجميع، ومسمعها (ربّما). أعرَبنا عن محبّتنا وأسفنا كلٌّ على طريقته. دُفِنَتْ الفقيدة إلى جوار أحبّة لها سبقوها إلى مقبرة تعتلي تلّة شجريّة خضراء. زارها المقرّبون صباح اليوم التالي ليؤنسوها بالتراتيل والدعاء.
"اعتنوا فقط بجثّتي، وسأعتني أنا بروحي سواء كنتُ هنا، أو هناك، أو في أيّ مكان"
استمرّ العزاء لأربعة أيام، يومان في القرية ثم مثلهما في حمص. توافد خلالها معارف الراحلة وزملاؤها في العمل وجيرانها وأقاربها وأصدقاؤها وأصدقاء أبنائها وأحفادها، ليقدّموا واجب العزاء. جلس كلٌّ منهم بجوار مَن يعنيه من أهل الفقيدة. سأله عن الأيام والساعات الأخيرة. سأله بإلحاح وحرارة، كرّر السؤال واستمع إلى مُحَدِّثه باهتمام حتى وإن كان يعلم الإجابة.
فالأصل في فكرة العزاء ليس كلمتَين باردتَين نلقيهما في رسالة أو في تعليق على "الفيسبوك"! الأصلُ في العزاء هو هذا: أن تدع المفجوع يحكي عن خسارته وألمه مرّة ومرّتين وثلاث، أن تساعده في التعبير عن حزنه، أن تُفسِحَ له فرصةً للبكاء والبوح، أن تعينَه على التصديق والقبول من خلال الكلام والاعتراف والتكرار. تمامًا كما نطلب من التلميذ أن يتلو درسَهُ بصوت عالٍ وأن يعيدَ التلاوة لكي يدركَ الدرس بأكثر من حاسّة فيفهمه ويحفظه ويرتضي به.
لن أُكمل، خشيةَ أن يفهمَ البعضُ أن النصّ يبتغي هجاءَ الهجرة ومديحَ البقاء في الوطن. لا، أبدًا. فالرحيل الكريم لوالدة زوجي لم يُنسِني بأنها ذاقت صنوفًا من المرارة خصوصًا في السنوات الأخيرة.
فَمِن معاناتها كأرملة شابّة مسؤولة عن ثلاثة أولاد في بلدٍ مُقَصّرٍ في حقوق النساء والأطفال والإنسان عمومًا، إلى مَهزلة راتب زوجها التقاعدي بعد سنوات من العمل الوظيفي، إلى مأساة الحرب التي أخرجتْها من بيتها وأذلّتها، مثل كلّ السوريين، في طلب أساسيات العيش من كهرباء وماء وغاز ومازوت، وصولًا إلى مكابداتها الأخيرة مع المرض والتّيه بين المستشفيات والأدوية الباهظة والمفقودة ومراكز العلاج المعدودة والبعيدة.
ولا يروم النصّ أيضًا تجميلَ فكرة الموت في الوطن بصفتها ضمانة لوداعٍ أشَمّ يحفظُ الكرامة. بالعكس، فأنا على علمٍ تام بأن في سوريا اليوم عددًا غير مُحصى من المقابر العشوائية والجماعية، وأن مئات وربما آلاف الأُسر لم تحظَ بجثامين أبنائها ولا تعرف لذويها قبرًا، وأنّ من بينهم أسرى ومعتقلون ومخطوفون ومفقودون وشهداء ووحيدون ماتوا من دون أن يودّعهم أحد. ماتوا على أرض حبيبة تحت سماءِ بلادهم من دون أن يعني ذلك لوطنهم أي شيء!
لذا، فاختلافُ الإطار المكاني للحادثتَين ليس سوى صدفة. والقاسم المشترك بينهما هو السوري أنّى وجد، في الداخل والخارج، في الوطن والمهجر والمنفى، يقلقه سؤالٌ باتَ يُطرَحُ كثيرًا كلّما اجتمعَ سوريّون على اختلاف أجيالهم: أين سنموت؟ أين سنُدفَن؟ مَن سينشغلُ بأمر موتنا؟ وكيف؟
وكأننا سلّمنا بحقيقة خسارة حصّتنا من الحياة الكريمة مُصانة الحقوق، ولم نعد نأمل إّلا بخاتمة تسترنا أمواتًا.
تستعيدُ ذاكرتي شذرةً للشاعر الفرنسي آلان بوسكيه احتفظتُ بها في دفتر مختاراتي منذ سنواتٍ طويلة، واليوم فقط أدركتُ السبب:
"اعتنوا فقط بجثّتي، وسأعتني أنا بروحي سواء كنتُ هنا، أو هناك، أو في أيّ مكان".[1]
[1] ترجمة الخضر شودار.
تنويه: بعد الانتهاء من إعداد المادة، علمنا في "أوان" من عائلة الفقيد أن جثمانه أُعيد إلى مونتريال وما زال في عهدة الطب الشرعي، من دون أن تتسنى لذويه رؤيته.