زرتُ بيروت للمرة الأولى عام 2018 لإجراء مقابلة مع جمعية ألمانية تنظّم تدريبًا للسوريين، يهدف إلى إشراكهم في الحياة السياسية لبلدهم. كانت تلك الفرصة مثالية بالنسبة لي، وتتوافق تمامًا مع أهدافي وطموحي. وكان الدخول إلى لبنان حينذاك سهلًا مقارنةً باليوم.
احتجتُ إلى حجز فندقي ودعوةٍ من المنظمة التي سأعمل معها، ومبلغ 2000 دولار يأخذها مني ضابط الأمن العام ليعدّها بيديه ومن ثم يعيدها إلي، كضمانة تفيد بأنّي أملك المال الكافي لتغطية مصاريف رحلتي إلى لبنان. بالطبع، لم يكن هذا المبلغ ملكي، فمن أين لفتاة من الطبقة الوسطى في سوريا مبلغًا كهذا، و"بالعملة الصعبة"؟
كان سائق التاكسي يؤمن المبلغ عن طريق أحد السماسرة، ويتقاضى مني أجر إعارته لي لمدة دقيقتين. ومع ذلك، أحببت الرحلة بتعقيداتها كلّها، وتحمّلت استجواب الضباط اللبنانيين حول سبب دخولي إلى لبنان وتعليقاتهم المسيئة أحيانًا، وشغلت نفسي عن التفكير فيها باستمتاعي بالإطلالة البحرية للرحلة الممتدة على سواحل مدن عدة، حيث تبدأ من اللاذقية مرورًا بطرطوس وطرابلس لتنتهي في بيروت. لطالما كانت بيروت حلمًا بالنسبة لي، وكان قبولي في التدريب بداية لرحلة مليئة بالحب والخوف استمرت لسنوات.
لم تكن بيروت مدينة عادية بالنسبة لفتاة قادمة من اللاذقية ولم تغادرها يومًا. اللاذقية التي تأبى أن تشبه أي مدينة سورية أخرى، وتخجل من كونها أقرب إلى الريف لجهة طبيعة علاقاتها الاجتماعية وأسلوب الحياة فيها. مدينة طالت الحرب جانبها المعيشي ودفعت شبابها إلى الهجرة أساسًا. لكن بدلًا من أن تمزّقها هذه الحرب، مزّقها الإهمال.
سحرتني بيروت بأنوارها وألوانها وأبنيتها القديمة، فكانت برغم أزمة الكهرباء فيها، مبهرة بأضوائها مقارنة باللاذقية. بعد ذلك، بدأت أتعرف شيئًا فشيئًا على الجوانب الأخرى للحياة فيها، ووقعت في غرام شعور الحرية والأمان الذي أمّنته لي أثناء زيارتي لها كل شهر، وهو شعور لم تأمّنه لي سوريا يومًا.
بعدما انتهى زمن التقسيم المكاني بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية، ظهر انقسام زماني بين بيروت القديمة وبيروت الجديدة
بعد سنوات من الزيارات المتكررة إلى بيروت، هربتُ إليها عام 2022 بنيّة الاستقرار بعد محاولة انتحار سبّبتها سوريا بظلامها وما حملته من صدمات نفسية وظروف معيشية سيئة. كان الظلام صارخًا في شوارع اللاذقية، كنتُ أحمله في قلبي بينما يبيعني الأطفال المشردون حفنة منه أينما مشيت.
كان المحافظ قد منع المولّدات الكهربائية الكبيرة (اشتراك الأمبيرات)، ولم تكن غالبية الناس تملك نقودًا تكفي لتركيب ألواح طاقة شمسية. كانت حصّتنا من الكهرباء تبلغ نصف ساعة تغذية مقابل ست ساعات ونصف الساعة من الانقطاع في أبرد شهر من الشتاء، وفي ظل شحّ في المحروقات للتدفئة. هكذا، تسلل البرد والغضب إلى عظامي، وتحوّلتُ إلى ثقب أسود غيّر مكانه كي لا يبتلع أحباءه من حوله، فاحتضنتني أسرّة الأصدقاء الإضافية في بيروت حيث غفوت دافئة، وحلمت بالضوء.
بيروت الجديدة
مرّت بيروت بتحولات عدة منذ زيارتي إليها للمرة الأولى. تمثلّت أولى هذه التحوّلات في انتفاضة 17 تشرين عام 2019 التي تزامنت مع الانهيار الاقتصادي، وبعدها في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/أغسطس عام 2020. أثّرت هذه الأحداث على مفاصل الحياة الخاصة باللبنانيين وغير اللبنانيين، واستغلّتها الحكومات اللبنانية المتعاقبة للوم اللاجئين والمهاجرين السوريين والدفع نحو ترحيلهم بحجة أنهم أصبحوا عبئًا على الدولة، فتبع كل حدث من الأحداث موجة عنصرية دفع ثمنها سوريون لا ذنب لهم.
هكذا، وبعدما انتهى زمن التقسيم المكاني بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية الذي شاع خلال الحرب الأهلية، ظهر انقسام زماني بين بيروت القديمة وبيروت الجديدة في الأحاديث اليومية لسكانها، أي بيروت ما قبل الانفجار وبيروت بعده، أو بيروت ما قبل الانهيار وبيروت بعده.
أما بالنسبة للسوريين، فشكّل مقتل القيادي في حزب "القوات اللبنانية" باسكال سليمان في نيسان/أبريل الماضي حدثًا محوريًا انعكست تبعاته عليهم لكون الجناة سوريي الجنسية فقط، وغيّر ذلك من شكل الحياة بالنسبة إليهم. فلم تعُد بيروت بعد الحدث تشبه أي نسخة شهدوها منها قبلًا، وظهرت أمامهم بيروت جديدة يُحيلون إليها في أحاديثهم النوستالجية للمقارنة ببيروت قديمة لم تكن الجنسية السورية فيها جريمة.
في حين تبدو الهجرة إلى إحدى البلدان التي تستقبل سوريين بإجراءات سهلة نسبيًا هي الحل الأمثل بالنسبة لي، ما زلت أحلم بالعودة إلى بيروت
لحسن حظي، تركتُ بيروت قبل أن تُكمل تحوّلها الأخير، وبقيَت في ذاكرتي بيروت القديمة التي لم تكن خالية تمامًا من العنصرية تجاه السوريين، إلا أنّي استطعت أن أجد فيها مساحات آمنة تتقبلني بمعزل عن جنسيتي أو توجهي السياسي أو ميولي الجنسية.
في بيروت القديمة، صرخت بصوت عالٍ لأول مرة أشتم سوريا والغربة عنها في الوقت نفسه، وتسكّعت أمام حاناتها أشرب البيرة وأتحدث في السياسة مع ناس أقابلهم للمرة الأولى.
اليوم، في بيروت الجديدة، تتوزع مناشير تطالب السوريين بالإخلاء على امتداد الشارع الذي كنتُ أسكن فيه، وعلى أرصفةٍ وأدراجٍ صنعتُ على إسمنتها معظم ذكرياتي في المدينة. وفي بيروت الجديدة، يختبئ السوريون في منازلهم أو منازل أصدقائهم خوفًا من الاعتداء أو الاعتقال، ويدفع القادرون منهم أموالًا طائلة لتأمين إقامة قانونية في لبنان أو "تعديل وضع" بطريقة ما لتفادي الترحيل إلى سوريا.
العودة إلى الصفر
كنتُ من الفئة المحظوظة أو "المرضي عنها" من المهاجرين الذين يستطيعون العودة إلى سوريا بسهولة ومن دون عقبات قانونية، فاستغلّيت هذا الامتياز وعدت إلى منزلي في اللاذقية بعدما خسرت عملي في لبنان. وقبيل وصولي، حرصت أمي على إنارة المنزل بشكل جيد مستعينة بالبطارية الجديدة التي أرسل أخي في ألمانيا نقودًا لشرائها خصيصًا، خوفًا من أن يمسّني الظلام مرة أخرى.
وفي الشهر الماضي، أكملتُ السنة الأولى في سوريا من دون زيارات إلى لبنان، هاجر خلالها معظم أصدقائي ومعارفي، وفشلَت محاولاتي لإيجاد عمل مناسب. وفي حين تبدو الهجرة إلى أحد البلدان التي تستقبل سوريين بإجراءات سهلة نسبيًا هي الحل الأمثل بالنسبة لي، ما زلتُ أحلم بالعودة إلى بيروت.
يقول أخي إنّي "رومانسية وطفولية" عندما أحدثه عنها، ويصفني أصدقائي بالمجنونة لمجرد التفكير بالعودة إلى بلد منهار وينكّل بالسوريين. ومع ذلك، ما زلت محتارة بين هجرة تُعد منطقية إلى أوروبا أو الخليج، وهجرة مدفوعة بالعاطفة والذكريات إلى بلد يهرب منه سكانه، كلبنان.