أنتِ لا تشبهين السوريين

كأننا جميعًا، نحن السوريين، جوعى إلى قصّ حكاياتنا. كأن الحكاية تشدّ حبلها حول عنقنا وتخنقنا إذا بقيت محبوسة في داخلنا. هذه بعض تلك الحكايات.

في عام 2014، كنتُ في زيارة إلى لبنان. هناك، ركبتُ "تاكسي ــــ سرفيس" كما يدعونه. وبعد مسافة قصيرة، أشار لـ"السرفيس" رجل أربعيني وأبلغ السائقَ بوجهته. تبيّن من لهجته أنه سوري، فرفض سائق التاكسي أن يقلّه، بل أغلق النافذة بعنف وانطلق بسرعة، مرددًا بقرف: "يعق، سوري!".

شعرت بالشتيمة مثل بصقة في وجهي، وصعد الغضب إلى قمة رأسي. لم أتمالك أعصابي، وقلت: "شو يعني؟ ليش يعق؟"، فسارع إلى الردّ: "ما تويخذيني، مش مبين إنك سورية! أنتِ ما بتشبهيهم". قلت: "نزّلني، بالفعل أنا ما بشبههم، وين أنا ووين هني؟ هني أحسن مني بكثير".

في العام ذاته، جرى تداول فيديو لشاب يُدعى محمد فحص من بلدة عبا اللبنانية، يحمل سكينًا ويلوّح فيه أمام ثلاثة أطفال يرتعشون من الخوف ويجهشون بالبكاء، ثم يهدّدهم بالذبح، ويخيّرهم: "من يريد أن يُذبح أولًا؟" بعدها يعود ليخيّرهم بين الذبح وقطع اليد، قبل أن يوجّه السكين إلى أصغرهم ويسأله: "أنتَ مع داعش؟".

لم يبرح هذا الفيديو ذاكرتي برغم مرور عشر سنوات. وبرغم التأكيد يومها أنَّ الحادثة فردية، فإنّ ما تلاها من عنف وعنصرية تجاه اللاجئين السوريين في لبنان دحض الفرضية تلك.

لا أشبه السوريين! لا أستطيع أن أتخيل نفسي أمًّا لواحد من أولئك الأطفال! يا لهول ما كنتُ سأشعر به! إنّ أصغر طفل من هؤلاء أكثر شجاعة مني وهو يجهش بالبكاء أمام من يهدّده!

لم أتخيل وصديقتي تقص لي الحكاية سوى مريم وهم يصلبون ابنها أمام عينيها! يا لصليب السوريين، ما أثقله!

في عام 2019، التقيت بسيدة سورية من الرقة لا يتجاوز عمرها الثلاثين، عائدة من لبنان، بعد قضاء سنتين من اللجوء فيه. كانت السيدة بصحبة أولادها الثلاثة. وحين سألتها عن سبب عودتها، أجابت بأنَّ زوجها قُتل في لبنان وبأنها تعرّضت بعد ذلك للتحرش والابتزاز، فما كان منها إلا أن عادت. كانت تلك السيدة تسكن سطحًا غير مسوّر، وتنام على حصير، لا أغطية ولا مرافق صحية. تربط أولادها إلى يديها في الليل خشية أن يستيقظوا ويمشوا ويقعوا وهي نائمة. من أنا أمام مأساة هذه السيدة التي كانت تدرس الأدب الفرنسي وفرّت من "داعش" حين دخلت الرقة لتذهب إلى لبنان ثم تعود إلى سوريا!

تخبرني صديقتي عن رحلة لجوئها إلى ألمانيا وكيف ربطت ابنتها ذات الثلاثة أعوام إلى جسدها كي تغرقا معًا إذا ما غرق المركب! تمعن في الحديث عن رحلة اللجوء الطويلة وخوفها من الدرك وخفر السواحل والموت في طرقات المشي الطويلة. أنظر إليها وأحار في شجاعتها: أنا لا أشبه السوريين، فما عشته لا يقارن بمأساتهم!

في ورشة أدارتها صديقتي في ألمانيا لـ"تدريب اللاجئات على كتابة قصصهن"، تخبرها إحدى اللاجئات عن رحلة لجوئها في البلم، ونشوب خلاف بين سيدة وصاحب البلم الذي ادّعى أنها خالفت التعليمات. فما كان منه إلا أن ربط تلك السيدة إلى القارب المطاطي وألقى بطفلها في البحر أمام عينيها. لم أتخيل وصديقتي تقص لي الحكاية سوى مريم وهم يصلبون ابنها أمام عينيها! يا لصليب السوريين، ما أثقله!

"أعطانا صاحب البلم سترات نجاة سيئة الصنع، تتمزق بسرعة لدرجة أنها تمزّقت وأنا ألبسها"، قال لي

في عام 2015، ضجت وسائل الإعلام الأوروبية بحادثة "شاحنة الموت"، إذ عثرت السلطات النمساوية على شاحنة تبريد مركونة على إحدى الطرق السريعة في النمسا وبداخلها 71 مهاجرًا، من سوريا والعراق وأفغانستان، ماتوا اختناقًا. أقرأ الخبر وأُصاب بالذهول: كيف يمكن لرواية مثل "رجال تحت الشمس" لغسان كنفاني أن تصبح واقعًا في تغريبة السوريين!

ثمة قصة تتكرر ألتقي فيها بسوريين وأنا أستقل القطار أو المترو في برلين، لا سيما المترو 8 الذي يمر في أماكن إقامة اللاجئين من مختلف الجنسيات. جلست قرب شاب لا يتجاوز العشرين، ورأيته يغرق في جوّاله ويشاهد مسلسلًا تركيًا مدبلجًا. انتابني الفضول فسألته: أنت سوري؟ فأجاب: سوري فلسطيني. وبدأ، على عادة الغرباء حين يلتقون، يسرد قصته. كأننا جميعًا، نحن السوريين، جوعى إلى قصّ حكاياتنا. كأن الحكاية تشدّ حبلها حول عنقنا وتخنقنا إذا بقيت محبوسة في داخلنا.

قال الشاب: أنا من مخيم اليرموك في دمشق، كنت أبلغ الثلاثة عشر عامًا من العمر حين قُصف المخيم ودُمّر. خرجت أسرتي من المخيم ولجأت إلى لبنان. كنا خمسة بعد استشهاد والدي في القصف، أنا وأمي وإخوتي الثلاثة. عشنا في مخيمات البقاع ورأينا صنوف الذلّ كافة. تدبرت أمي أمر إرسالي إلى أوروبا، فخالي هنا في ألمانيا. ركبتُ البلم مع سوريين كثر من لبنان. كنا نحو أربعين شخصًا، مع أن سعة البلم كانت عشرين. أعطانا صاحب البلم سترات نجاة سيئة الصنع، يا خالة. هذه السترات تتمزق بسرعة لدرجة أنها تمزّقت وأنا ألبسها. وبعد رحلة طويلة وصلتُ إلى اليونان.

لم أكن أعرف أي كلمة أجنبية. مشيت مع الناس. توقفت حين توقفوا. مشينا كثيرًا، حتى قالوا لنا ثمة باصات ستأخذكم إلى ألمانيا. ركبنا الباصات وأتيت إلى ألمانيا. في ألمانيا تنقّلتُ من كامب إلى كامب. ولأنّي لا أجيد أي لغة، قاسيتُ كثيرًا قبل أن أتدبّر أمر التواصل مع خالي.

الآن، أجيد الانجليزية والألمانية، أستيقظ في الخامسة صباحًا، أصلي، وأنظف غرفتي الصغيرة وأذهب إلى العمل، فأنا تلقيت تعليمًا في ميكانيك السيارات "Ausbildung". أعمل في ميكانيك السيارات قبل الظهر وبعد الظهر أشتغل في مطعم "بالأسود". أرسل لأمي كل شهر 400 يورو، والحمد لله.

ثم يسألني: وأنت يا خالة، كيف أتيتِ؟ وأين تعيشين؟ انشالله أمورك تمام؟

أرتبك أمام سؤاله، أتكور مثل حلزون. وأشعر بالخجل وأقول لنفسي ليتني لم أفتح حديثًا معه. أقول له: "أنا شاعرة. جئت بمنحة لأكتب عن معاناة السوريين!" أصمتُ وأحتضنه ودموعي تحفر خديّ: "أنا منيحة خالتو ... منيحة".

يا لثقل العار الذي يجللنا!

أنا لا أشبه السوريين! كيف يمكن أن أقيس ما عانيت بمعاناة هذا الشاب وأسرته؟

ثمة سوريون كثر يدعمون أهلهم في سوريا من دون أن ينتظروا تمويلًا من أحد، ومن دون أن يتاجروا بتاريخهم الشخصي

في زيارة لفرنسا، العام الفائت، التقيتُ بأصدقاء سوريين قضوا أعوامًا طوالًا في المعتقل في ثمانينيات القرن العشرين بتهمة الانتماء إلى اليسار، ولجأوا إلى فرنسا إبان اندلاع الأحداث في عام 2011.

لفت انتباهي أنهم جميعًا يعملون مع أنّ اعمارهم تجاوزت الستين. إحدى التجارب اللافتة التي توقفتُ عندها هي تجربة صديق، معتقل قديم صنديد، يعمل في جمعية فرنسية تنظم أنشطة على مدار العام، ومنها تنظيم بازار خيري في عطلة الأسبوع، حيث يقوم بإعداد أطباق سورية وبيعها ليعود ريعها إلى جمعيات أهلية في سوريا تعنى بشؤون النازحين، خصوصًا برامج تعليم الأطفال، ومن هذه الأطباق الفلافل.

أقف معه في المطبخ وأراقبه وهو يطحن كميات كبيرة من الحمص ويخلطها بالبصل والثوم. أشرد، وتعبر ذاكرتي أسماء كثيرة من نخب المعارضة السورية صعدت على حساب دماء السوريين ومعاناتهم: سياسيون ومثقفون، فنانون وأدباء، في فرنسا وألمانيا، اقتنوا أفخم الشقق وابتاعوا أفخم السيارات. يخرجون إلينا عبر القنوات الفضائية كي يحدثوننا عن اللاجئين، ويستبسلون في تنظيم المؤتمرات وخوض الجدالات، ويعرفون دهاليز النّفاذ إلى تمويل المنظمات الدولية، من دون أن يصل إلى اللاجئين، في النهاية، سوى جعجعتهم فحسب.

أين من هؤلاء صديقي الذي يصنع الفلافل كي يرسل المساعدات إلى أهلنا السوريين؟

ليس هذا الصديق وحده من يعمل في صمت. كثيرون فضّلوا عدم الخوض في غمار التجارة السياسية السورية البعيدة والتلوث بأوحالها. في ألمانيا وكندا والولايات المتحدة وإسبانيا، ثمة سوريون كثر يدعمون أهلهم في سوريا من دون أن ينتظروا تمويلًا من أحد، ومن دون أن يتاجروا بتاريخهم الشخصي، أو يتباهوا بأمجاد لا وجود لها، أو يلفقوا أكاذيب "متفق عليها"، أو يقبضوا لقاء مواقف سياسية تباع وتشرى، أو يروا في ما يقدمونه للسوريين في الداخل منّة أو فضيلة.

في كل يوم أضع فيه رأسي على الوسادة، أسمع صراخ المرأة التي ألقوا ابنها في اليمّ

"أنت لا تشبهين السوريين"، عبارة أسمعها كثيرًا من الأجانب هنا. يظنونها مديحًا، كأنهم يعلقون نجمة على جبهة الفتاة الصغيرة الآتية من بلاد القمع. لكن العبارة تقع عليّ مثل شتيمة أو صفعة مدويّة. وفي كلّ مرة أنتفض وأقول: ماذا تعرفون عن السوريين ومعاناتهم؟ ماذا تعرفون عن عقود الاستبداد والقهر؟ ماذا تعرفون عن تاريخ سوريا؟ كيف يمكن أن تلخص ذلك كله بعبارة عنصرية بغيضة؟

لطالما أثّرت دراسة الهندسة الزراعية في حياتي بهذه الطريقة أو تلك. ثمة نبات يُدعى "القثاء البري"، يشبه الخيار، ذو حجم صغير وعلى الثمار أوبار خشنة، ما إن تضغط على الثمرة حتى تتطاير البذور في كل حدب وصوب. مثل هذه البذور، كلما زرت مدينة ألمانية أجد فيها سوريين، في الشمال أو الجنوب. وهذا ما يخبرني به أصدقائي المبعثرون في شتى بقاع الأرض.

أشرد وأشتم كثيرين، من شتّى الاتجاهات والأصناف والألوان التي بدا، في النهاية، أنها منوّعات على الاتجاه الواحد ذاته، ومساطر من الصنف الواحد ذاته، ودرجات من اللون الواحد ذاته، راح السوريون ضحيتهم وانتثروا في كل مكان.

في كل يوم أضع فيه رأسي على الوسادة، أسمع صراخ المرأة التي ألقوا ابنها في اليمّ، ونشيج أولئك الذين قضوا في الشاحنة، وتعبر في رأسي الصور والدموع والأبنية المهدّمة.

من أنا؟ ماذا أفعل؟ أنا مهزومة أمام كل أم وأب وأخت وزوجة مكلومة، أمام كل طفل فقد أهله وتشرد في أصقاع الأرض، أمام كلّ بيت تهاوى ومدينة دُمّرت، أنا خجلة من كل حكاية أرويها.


ماركس يأخذ بيدي

لم يدر في خلدي يومًا أنني سأزور ألمانيا، لكن مصادفةً قادتني إلى برلين، وأردت أن أزور تمثالي ماركس..

هنادي زرقة
الفرح ليس مهنة الشعراء

كلما خرجت مجموعة شعرية جديدة لي من المطبعة، أفرح ثم أتذكر أن هذه المجموعة صدرت في حين أن سوريين كثر..

هنادي زرقة
رماد في قارورة

أثمّة حنان يسري في تراب الوطن ولا يسري في تراب الغرباء؟ ما هذه الرَّمْنَسَة للموت؟ ما هذه الغربة المقلقة..

هنادي زرقة

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة