
في بداية حراك ساحة الكرامة في السويداء عام 2023، ظهرت الأعلام الثلاثة؛ السوري الأحمر والسوري الأخضر وعلم طائفة الموحدين الدروز ذو الألوان الخمسة. ثمّ انسحب العلمان الأحمر والأخضر تدريجًيا، وبقي علم الطائفة وحده في الساحة.
كتبتُ يومها مقالة في "أوان" دافعتُ فيها عن وجود علم الحدود الخمسة، معتبرًا إياه رمزًا من رموز المحافظة، وجزءًا أساسيًا من هويتها الاجتماعية والثقافية، ومذكرًا وقتذاك بأن كلّ هوية محلية قوية تُعزّز الهوية الوطنية طالما أن المركز يحترم الأطراف وحقوقها وهويّتها. بكلام آخر، فإنّ الهوية المحلية تُشكّل عاملَ أمانٍ طالما أن المواطَنة محترمة وكذلك حقوق الجماعات.
تنطلق هذه المقولة من فرضية أساسها أن الأطراف وانتماءها للوطن ينبثق بشكل أساسي من كيفية تعامل المركز معها، وليس العكس، أي أن المركز هو من يحدّد مقدار انتماء الطرف إليه. وبالطبع، ليس الأمر بهذه القطعية، فهناك بالتأكيد في الأطراف من لا يريدُ الحفاظ على وئامٍ مع المركز أيًا كانت سياساتُ هذا المركز، لكنّ ذلك لا ينفي أن المُنطلق هو المركز بشكل أساسي.
نُشرت وقتذاك مقالات رفضت هذا الطرح، اعتبرت غالبيتها أنه يمهّد لمأسسة الطائفية في البلاد! انطلقت هذه الردود من فكرة مفادها أن الهوية الوطنية لا تتوافق مع هويات فرعية عمومًا، وطائفية بوجه أخصّ. وبالتأكيد هناك ما يسند هذا المنطق. فلبنان والعراق شاهدان حيّان، قريبان من سوريا، على ما يرى فيه كثر خصومة بين الهويتين الطائفية والوطنية.
ربما كانت مفيدة العودة اليوم، بعد كل ما جرى، إلى السؤال الأساسي الذي طرحته تلك المقالة: هل رفعُ الأعلام كان مؤشرًا على الوصول إلى مطلب الانفصال عن الوطن الأم؟ هل وجُب علينا أن نحارب رفع علم الطائفة على اعتبار أنه يعكس تعبيرات جهويّة تمهّد لانقسامات داخل المجتمع والدولة؟ أم أن الأمر كان محاولة من أهل المحافظة للقول إننا سوريون وأبناء السويداء في الآن نفسه، ونحن سوريون طالما أن سوريا تريدُنا، والهويّتان المحلية والوطنية دعّامتان الواحدة منهما للأخرى؟
ولعلّ السؤال الأهم هنا هو لماذا رفعت "ساحة الكرامة" علم الموحّدين الدروز مع العلَمين السوريّين الآخرين، لتظل بعد ذلك راية الدروز وحدها موجودة في الساحة؟ ولماذا رُفعت هذه الراية مع علم الثورة/سوريا بعد سقوط النظام في احتفالات "ساحة الكرامة"، ثم عادت لتُرفع وحدها، مرة أخرى، لكن مع خصومة مُعلنة لكل علم يرمز إلى سوريا الواحدة؟
منطق صهر البلاد بهوية واحدة وإزالة الهويّات الأخرى لن ينجح، وتكلفته البشرية كارثية
سأحاول الإجابة على هذا السؤال بالاستناد إلى مجموعة افتراضات. الافتراض الأول هو أنّ الهويّات المحليّة قويّة بطبيعتها، وهي فطريّة، يفرضها الواقع الاجتماعي وسلطة المجتمع، في حين أن الهوية الوطنية هي حصيلة قوى سياسية واجتماعية، تفرضها النخبة الحاكمة من أعلى، خصوصًا في دول لم تشهد حكمًا ديمقراطيًا، وهي بالتالي أقل طبيعية وأكثر قسريّة وأقلّ تقبلًا.
الافتراض الثاني هو أن المواطنة، متى كانت متحقّقة، وترافقت مع احترام حق الجماعات الدينية والإثنية بممارسة طقوسها ومع احترام عاداتها وتقاليدها ورموزها، تجعل من الهوية المحلية عاملًا مُعززًا للهوية الوطنية. في المقابل، فإنّ عدم احترام الهوية المحلية ـــ والذي يعني في جوهره انتقاصًا من حقوق المواطنة ـــ يجعل من الهوية المحلية خصمًا للهوية الوطنية!
الافتراض الثالث هو أن الهويّتين المحلية والطائفية فضاءان مختلفان، وإن كانا متقاطعين. فالهوية المحلية مرتبطة بعدد من الأبعاد. أوّلها الجغرافيا والتضاريس، فنهر الفرات مثلًا جزء أصيل من الهوية الديرية، والساحل جزء من الهوية الطرطوسية، واليرموك جزء من الهوية الحورانية، وهكذا دواليك. ثانيها اللهجة، كالديرية والحمصية والحلبية والشامية وهكذا. ثالثها التقاليد والعادات بوصفها محدّدات لبعض ملامح الهوية المحلية. رابعها الأحداث الكبرى، فثورات هنانو وصالح العلي وسلطان باشا الأطرش ذات ارتباط بإدلب وطرطوس والسويداء على التوالي. أما خامسها فالعامل الديني الذي ينعكس في تقاليدها وطقوسها وعاداتها بطبيعة الحال. يعني ذلك أن الهوية المحلية لا يمكن اختصارها بالهوية الطائفية، إذ إنهما متمايزان وإن تقاطعا. كذلك يعني أن الهوية المحلية علمانية في جوهرها، لأنّ ما يشكّلها مجموعة من العوامل.
الافتراض الرابع أن الاقتصاد والتجارة يشكّلان رافعة أساسيّة للهوية الوطنية لجهة تسهيلهما التحوّل من الانعزال المحلي إلى الوطنية المنفتحة على كامل الجغرافيا الوطنية المترابطة.
انطلاقًا من هذه الافتراضات، أرى أن رفع علم الموحدين الدروز لم يكن تهديدًا، بل إشارة إلى رغبة باحترام الهوية المحلية، ولم يكن رفع علم الثورة بعد سقوط النظام إلا تعبيرًا عن رغبة أصحاب هذه الهوية بالاندماج بالكل دون أن يفقد هويته الخاصة!
لكن ما معنى احترام الكل للجزء، أو المركز للأطراف، أو الهوية الوطنية للمحلية؟
برأيي، يعني ذلك أولًا أن نطوي صفحة صهر الهويات ونفتح صفحة تكاملها. فأن نكون سوريين يعني، أيضًا، أن نكون شوام، وحلبيين، وديريين؛ وعربًا، وكردًا، وآشوريين، وتركمان؛ وسنة، وعلويين، واسماعيليين، ودروزًا، ومسيحيين، وأيزيديين... وهذا كله يعني تنوعًا، لا غيابًا للوطنية.
ويعني ذلك، ثانيًا، أن يحترم المركز الهويات المحلّية، ويتيح لها حق انتخاب سلطات لإدارة شؤونها المتصلة بالصحة والتعليم والبنى التحتية وخلافها، فيما تترك الإدارات المحلية للمركز العلاقات الخارجية والجيش وخلافها!
ويعني ذلك، ثالثًا، أن تكون الإدارات المحلية جزءًا أساسيًا من المركز، ومُساهمة في صناعة القرار الوطني، لا مُبعدة عنه!
ويعني رابعًا أن نقتنع بدور الاقتصاد في تسهيل إنتاج هوية وطنية عابرة للهويات المحلية دون التعدي عليها. إذ لا الإقصاء ولا الحصار ينجح في إعادة الجزء إلى الكل، بل إنهما يؤديان إلى دفع هذا الجزء بعيدًا عن الكل!
حسنًا، كيف يمكن أن ننظر إلى رفع العلم وما جرى لاحقًا في السويداء وما يجري اليوم؟ قبل أن نخوض في أي من ذلك، ينبغي القول إن إسرائيل هي أكبر الأخطار المحدقة بالمنطقة، ولا يوجد ما يبرر اللجوء إليها. لكننا يجب أن نقرأ الحدث كي نتعلم منه، من أجل مستقبل البلاد، وبغض النظر عن كيفية حلّ معضلة السويداء وبعدها معضلة شمال شرق سوريا وسواها. يجب أن نقتنع أولًا بأن منطق صهر البلاد بهوية واحدة وإزالة الهويّات الأخرى لن ينجح، وثانيًا بأن تكلفته البشرية كارثية، وثالثًا بأنّه ما يتسبب بتمزيق البلاد!
لكن هل تُبرّر حالة التهميش مطالب الانفصال والانعزال؟ قطعًا لا! هل مسؤولية المركز أكبر هنا؟ حتمًا، فهو صاحب القرار الأوزن في البلاد، وفي خارجها طبعًا. لكنّ هذا لا يعفي الأطراف متى كانت رافضة للحوار. فمسؤولية النجاة عامة، حتى لو تباينت الأوزان!
إنّ تنازل الجميع لا يُكسب طرفًا على حساب الآخر، فهو تنازلٌ لمصلحة بلاد مستقرة وآمنة. أما الحوار فوحده ما يوصل إلى النجاة، وهو حوار ينبغي ألا يتوقّف يومًا، ولا أن يُعقد ليوم واحد فقط.