كما كان يحدث حين كنتُ أهرب إليه من كل جنون، تخيّلت أنّي التقيته في منزله في صحنايا، يدخّن سيجارته الحمراء، ويشرب الشاي.
تخيّلت أنّي ألتقيه اليوم في ذكرى تغييبه، أو اعتقاله. ألتقيه بعد تهليل بنيامين نتنياهو بصفاقة لانتصاراته المزعومة. ماذا الذي كان سيقوله؟
هل كان سيصمت؟ هل كان سيصفّق لما لحق بـ"حزب الله" يومي السابع عشر والثامن عشر من أيلول/سبتمبر؟ هل كان سيبكي ألمًا لهزيمة جديدة أمام "إسرائيل"؟ ما الذي كان سيقوله عمّن فرح بانكسار "حزب الله" يومذاك؟ هل كان سيعاتب الناس؟ هل كان سيهاجم النخب التي هلّلت؟
لكن لماذا عليّ أن أسأل عبد العزيز؟ لماذا لا أسأل نفسي، أو أصدقاءنا المشتركين، أو غير هؤلاء كلهم؟
هذا في حقيقة الأمر أسهل الأسئلة. إذ دائمًا ما كان عبد العزيز هو الضمير بالنسبة لي. ما زلت منذ أن غيّبه النظام قبل اثنتي عشرة سنة أستحضره في كل موقف أتبناه، أو تحليل أقدّمه، وأسأل نفسي: ما الذي كان سيقوله؟
ثمّ ألا نتّفق ـــ معظمنا على الأقل ـــ على أنه كان رجلًا وطنيًا خالصًا؟ ألا يُقر كثر اليوم، حتى ممن هاجموه لفظيًا أو جسديًا، بأنه كان ثاقب البصيرة؟ ألم يُعبّر كثير ممن هاجموه واتّهموه يومًا عن أسفهم وندمهم على ما قالوه له؟
ها أنا، بعدما صرنا نختصم على كل شيء، وأي شيء، وحتى لا شيء، أتساءل: ما الذي كان سيقوله؟ دعنا من خصوماتنا اليومية على كل شيءٍ وأي شيء. ما الذي كان سيقوله اليوم بعد انقسام جديد لنا إثر هجوم استخباراتي "إسرائيل" غير مسبوق على "حزب الله"؟
حسنًا، سأتجرأ وأدّعي أن هذا ما كان يُمكن أن يقوله لي.
أقول له: كثر يبتهجون اليوم بما حلّ بـ"حزب الله". ألم يشارك "حزب الله" في تهجيرهم، وحصارهم، وقصفهم؟ ألم يحاصر "حزب الله" مضايا؟ ألم تُنشر هاشتاغات، وتُصور ابتهاجات بجوع أهلها؟ ألا يحق لهم ذلك؟
عبد العزيز: اسمع، دعك مما يقوله الناس، فهؤلاء أصحاب آلام. هم مهجّرون، أو نازحون، أو لاجئون، أو فاقدون لفرد أو أكثر من أحبائهم. فكيف لك أن تلومهم مهما قالوا أو فعلوا؟ لكن دعني أسألك عن النخب: ما كان موقفهم يوم غزا صدام الكويت، ثم بعدما غزت الولايات المتحدة العراق، وأعدمت صدام؟ إن كانوا قد احتفلوا يومذاك، فاحتفالهم اليوم منطقي، أليس كذلك؟ بمعنى آخر؛ موقفهم واضح هنا، فهُم اعتبروا أن استبداد صدام يبرّر غزو القوات الأميركية للعراق وتدميره، وترك البلاد ترزح تحت حرب أهلية طاحنة. هؤلاء منسجمون مع أنفسهم. لكن ما المصلحة المشتركة بين شعوب المنطقة والولايات المتحدة أو إسرائيل؟
كيف سيشعر طفل غزاوي عندما يطّلع على شماتة "النخب"؟
أقاطعه: شعوب المنطقة؟
عبد العزيز: طبعًا، إذا كانت الولايات المتحدة ستُحلّ الديموقراطية في بلداننا، فهي ستتحالف مع مُنتجات الديموقراطية، أي خيارات الشعوب. أليس كذلك؟ هل تريدني أن أعلّق على هذا الكلام، أم أن بداهة عدم صوابيته كافية؟
أمّا من اعترض منهم على الغزو الأميركي، فهنا سؤال آخر: ما الفرق بين هذا وذاك؟ لماذا عارضتم دخول الولايات المتحدة للخلاص من خصمكم (أؤكد خصمكم، وليس عدوّكم)؟ هل كنتم مخطئين وقتئذ؟ بمعنى آخر؛ هل ستؤيدون دخول الولايات المتحدة لو عاد الزمن بكم إلى العام 2003؟ ما هي الحقائق التي تجلّت لكم حتى تأكّدتم من أنّكم كنتم مخطئين؟ الطامة الكبرى أن هؤلاء اختبروا نتائج التدخل الأميركي في العراق، ثم ترى بعضهم يطالب بالأمر نفسه، لكن هذه المرة على يد إسرائيل! هؤلاء لا يتحدثون سوى من منطق الغضب والثأر، وهذا أفهمه من بعض الناس، ولكن ليس من "النخب"!
أقول له: اسمعني.. أخذتني إلى مكان آخر، الناس هنا لم يتوقّعوا أن تأتي إسرائيل بالديمقراطية لنا. هم معادون لها، لكنّهم ينطلقون من منطق "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين". بمعنى أنهم يرون "إسرائيل مجرمة، وحزب الله مجرم".
عبد العزيز: حسنًا، هنا مربط الفرس. لنفترض أن "حزب الله" اشتبك مع إسرائيل وحقّق نصرًا عليها. هل كانوا سيحتفون بهزيمتها؟ هل يبقى الأمر معلقًا على ضرب "الظالمين بالظالمين"؟ لا. أقولها بثقة! لذلك أقول إن مربط الفرس هنا. لأن هذه الفرضيات إنما تنطوي على كتلة رهيبة من التناقضات! الثورة التي نادينا بها هي ثورة ضد الاستعمار، والاحتلال، والاستبداد، والفساد. وأقول الاستعمار والاحتلال أولًا لأنهما أسّ الاستبداد والفساد، وأوّل من دعم الاستبداد في منطقتنا كان الاستعمار.
في حديثك عن الاستبداد أنت تطالب بتغيير منظومة الحكم، وتحارب خصمًا محليًا سيتعيّن عليك أن تعيش معه مستقبلًا أيًا كانت الظروف. أليس القرار 2245 قائمًا على فكرة التوافق المتبادل؟ ألا يعني أن نتوافق معارضة وموالاة؟ أما الحرب مع الاستعمار أو الاحتلال فتعني الخلاص منهما بشكل كلّي، واجتثاثهما من جذورهما، لا التعايش معهما! نعم، قد تدخل في حلول وقتيّة، لكن الهدف سيكون زوال الاستعمار!
ثم، إلى جانب هذا كلّه، سمعت أن افتراقًا حصل في ما يخصّ هجمات السابع من أكتوبر، بين مؤيدين ومعارضين. لن أدخل في هذا الجدل. لكن ما أعرفه تمامًا أن السوريين كافة، دون استثناء، يريدون وقف العدوان على غزة. فهل ما جرى في 17 و18 أيلول/سبتمبر سيوقف الحرب، أم أنه حافز كبير لنتنياهو كي يكمل حربه؟ ودعني أسألك: كيف سيشعر طفل غزاوي عندما يطّلع على شماتة "النخب"؟ إنه ينتظر طوق نجاة. أي شيء يوقف العدوان أو يضعف نتنياهو. ما هو شعور الغزاويين إذا رأوك تحتفل معه؟ يا أخي، فلتذهب السياسة إلى الجحيم، كيف ستنظر في وجوه هؤلاء؟
ملاحظة أخيرة: لا أعرف إن كان عبد العزيز سيقول الجملة الأخيرة. لكنّي أسألكم: بالله، كيف تتخيّلون شعور الغزاويين وهم يشاهدون فرحًا مشتركًا بينكم وبين نتنياهو؟ بالله عليكم، كيف ستنظرون في أعينهم؟