يروي صديقٌ لي مسرحيّته الواقعيّة:
الخوف هو تجديدُ الإقامة السنويّة في لبنان. أخطأتُ التقدير لستّ سنوات. فأشدّ الخوف كان تجديدَ الإقامة في آخر سنة حين قرّرتُ أن أرحل.
خرجتُ في آب/أغسطس 2023 من السجن إلى هولندا مباشرةً. نجوتُ من فترة حبس طويلة، قضيتُ آخر ثمانية أشهر فيها في المشاعر ــــ والأشغال ــــ الشاقّة. حبسٌ حفظتُ خلاله مكاتب الأمن العام في العدليّة وطوابقه، وشهدتُ ظهور القمر فيه وبدر الدُجى.
* * * *
حصلت على قبول لمتابعة الدراسات العليا في هولندا. تنتهي إقامتي (إقامة طالب) في آخر شهر من العام 2022، وموعد سفري في نهاية آب/أغسطس من العام 2023. إذًا، تجديد الإقامة ليس مقلقًا. لديّ ما يكفي من الوقت وتسجيلٌ جامعي.
في كلّ عام، أقدّم طلبًا لدى مركز الأمن العام في المحافظة التي أسكن فيها، ويدرسُ الملفَّ مكتبُ العرب والأجانب. وللمكتب مخيّلة واسعة للتأكّد من معلوماتي: مراقبة صفحات التواصل الاجتماعي، وزيارات مفاجئة إلى المنزل، واتصالات لمحاولة "إيقاع بالفخّ"، والسؤال عن المواد الجامعية التي يفترض أني أدرسها.
ثم يصدرُ القرار الإيجابي، فأسحب الملفّ من المكتب وأُعيد تقديمه في مركز الأمن العام للحصول على الإقامة خلال مدةٍ بلغ معدّلها ما بين شهرين ونصف وثلاثة أشهر ونصف من تاريخ تقديم الطلب.
حضّرت الملف: معادلة شهادة جامعية وبيانات تحويل أموال من خارج لبنان، وتعهّد عدم عمل عند الكاتب بالعدل، وإفادة سكن من المختار (التي أصبح إصدارها يتطلّب شهادة لبنانيّ يؤكّد مكان سكني) وغيرها. قدّمت الملف في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2022 وبدأت الرحلة.
* * * *
"إرجع بعد 20 يوم". جملة كانت تردّدت على مسمعي كلّ 20 يومًا. والتبرير دائمًا: تأخيرٌ إداري. في حوزتي إيصال أستخدمه لتأكيد وجود ملفٍ لي. سمعتُ الجملة تلك أكثر من ثلاث مرّات، ولا جواب. لا بأس! الوقت متّسع للتأخّرات المعتادة.
في الأسبوع الأخير من آذار/مارس بُلّغت: "أصبح بإمكانك سحب الملفّ وإعادة تقديمه". جميل!
"إرجع بعد 20 يوم". في إحدى دورات هذه الدوّامة، نُصحت بتقديم طلبٍ مستعجل للإقامة في مقرّ العدليّة. هناك، زرتُ الطوابق كلّها حتّى حفظتها عن ظهر قلب، ونفدت كلّ التبريرات المُقنعة لضرورة السفر. والجواب البارد الثابت: "ليست مشكلتنا… عليك أن تنتظر. شوف المكتب الفُلاني".
"بكرا". جواب تكرّر. وأليسَ قِصَر الجواب مجحفًا بحقّ سؤالي الذي حصرته في حنجرتي طوال اليوم لأطرحه على الموظّف؟
أخذتُ استراحةَ محارب من أجل إقامة لا بدّ أن تأتي. وفي أيّار/مارس، تبلّغتُ بأنّي سأحصل عليها! ولكنّ الإقامة المقصودة كانت تأزّم العقدة لا تحلّها. إقامة مؤقّتة حتى فصل الصيف لأن العام الدراسي قد انتهى! إقامةٌ لا تخوّلني المغادرة، وإن خوّلتني، فلا تسمح لي بالعودة إلى لبنان.
نادى اسمي الكامل بصوت عال.. وكم يخيفني سماع هذا الاسم بصوت عالٍ في العدلية
ماذا عساي أفعل؟ قبلت. الآن، عليّ أن أُعيدَ تقديم الملف إلى العدليّة لأستلمَ إيصالًا تتجدّد صلاحيّته كل شهر ونصف.
لحسن الحظّ، قبلت السفارة الهولندية هذا الإيصال ومنحتني تأشيرة الدخول إلى دولتها. تأشيرةٌ لا معنى لها، فلا يُفتحُ باب الدخول إلّا بمفتاح الإقامة المنتظرة.
عُدْ إلى العدليّة وتابع الملفّ.
الأوراق غير موجودة! زرتُ كل المكاتب وملفّي ليسَ في أيّ منها. وأمام مركز العدليّة، طوابير من السوريّين:
الأوّل: بين السادسة والسابعة صباحًا. سباق للوصول إلى الداخل. يسمح كلّ يوم لدخول ما بين 100 و150 سوريّا. "إنت وحظّك".
الثاني: يبدأ الدخول عند التاسعة صباحًا للانتظار في طابور أمام المكتب المقصود. قد يكون المكتب الخطأ. "راحت عليك".
في رواق الطابق، يظهر قمرٌ مرّة في اليوم ليستلمَ طلبات التقديم أو إيصالات المتابعة ويختفي. ورقةُ يانصيب: "يا بيتطلّع فيك وبياخد أوراقك، أو ما بيتطلّع فيك". كنتُ شفّافًا لثلاثة أيام أو شبحًا.
* * * *
حان وقت دسّ نبض الأمن العام في المطار. الجواب: خروجي من لبنان غير ممكن. أكيد عم يمزحوا!
كوميديا سوداء.
خروجي ممكنٌ في حالتين: إقامة "مكسورة" (وجودٌ غير شرعي) أو الدخول خلسةً إلى لبنان (دخول غير شرعيّ).
ملفّي القانونيّ (الضائع) في الأمن العام يعني "لا خروج". قد تكون إقامتي كسوريّ غير مرغوبة من البعض. تمام! أنا عم قلّكن طالع … ماشي … تارك. خلّوني إمشي!
ظهرَ حلّ جديد: أسحبُ ملفّي من الأمن العام وأقدّمه في المطار لأُمنحَ ترفَ الخروج. أصبح ملفُّ التقديم الهدفَ، لا الإقامة!
موعد السفر بعد خمسة أيّام. حان وقت دقّ أبواب "الواسطة". استعنت بعدد من الرفاق، ولكنّ معظم "الواسطات" أنقذتني من انتظار الساعات الثلاث في الطابور الأوّل، لا أكثر. انهارت أعصابي.
* * * *
الفصل الأخير.
طلب أحد "الواسطات" أن أذهب إلى العدليّة في 28 آب/أغسطس (يوم السفر)، وأسألَ عن موظّف معيّن. طَلبَ الأخير، الذي سيتلقّى مبلغ 400$ إذا ما سافرت اليوم، أن أنتظرَ في رواق الطابق.
الوقت يمرّ. وهو يتنقّل بين كلّ المكاتب. يروح ويجيء ويغضب ويشتم. "أوراقك مش موجودة. ضايعة".
بعد دقائق: "أنا بحلّها". بدأ يطبع أوراق ملفّي الموجودة إلكترونيًّا فقط، ويتنقّل بين المكاتب لـ"خلق" ملف جديد.
مفاجأة! خرج من الدجى بدرٌ. شخص لم ألمحه مرّةً طوال ثمانية أشهر. هو رئيس القسم أو مسؤول الطابق… لا أدري.
نادى اسمي الكامل بصوت عال. وكم يخيفني سماع هذا الاسم بصوت عالٍ في العدلية (تجربة حبس حقيقية وشاقّة حينَ يتشابه اسمك مع اسم مطلوب أمني). النهاية تراجيدية، فكّرت.
بعد مناداة اسمي، قال: ستأخذ أوراقك الآن.
فعلًا؟
هذا ما حصل! أهي نهايةُ فيلم غير منطقيّة ينتصرُ فيها البطل بسهولة؟ أعطاني الملفّ الذي ظهرَ فجأة، وقال لي: "ما عاد بدّي شوف خلقتك".
خرجتُ مسرعًا لحزم أمتعتي قبل ساعات من السفر. رافقني جيش من الرفاق إلى المطار خوفًا من مأزق يعيدني إلى النقطة صفر. حصلتُ على ختم الخروج من الأمن العام، ولم يرمِ الموظّف إلى الملفّ نظرةً ولو كاذبة…