بعدما شكّل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حكومته الجديدة، عقد مجلس الأمن القومي التركي أول اجتماع له في 8 حزيران/يونيو، وفيه شدّد على الحاجة إلى دعم دولي لضمان عودة السوريين الطوعية إلى وطنهم بأمان وكرامة.
وأشار بيان ما بعد الاجتماع إلى أن "الحفاظ على وحدة أراضي سوريا وتحقيق سلامٍ واستقرارٍ دائمين لن تكون أمور ممكنة إلا بعد تطهير البلاد من المنظمات الإرهابية"، في إشارة إلى "وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)" المتواجدة في سوريا، والتي تعتبرها تركيا أحد أذرع "حزب العمال الكردستاني (PKK)" المصنّف إرهابيًا لديها.
يثير هذا الإقرار المفتوح لمجلس الأمن القومي التركي قضيتين على درجة عالية من الحساسية والخطورة لسوريا السياسية، هما: شروط العودة الطوعية، ووحدة الأراضي السورية.
القضية الأولى: العودة الطوعية بأمان وكرامة
برزت قضيّة اللاجئين السوريين في تركيا كنقطة اشتعال في الانتخابات التركية خلال جولتيها الأولى والثانية، حيث احتلّت متن الخطاب الانتخابي للمرشحين الرئيسيين. وبرغم اختلاف خطط المرشحين للتعامل مع المسألة، إلا أن القاسم المشترك بينها تمثّل في تجاهل اتفاقية عام 1951 بشأن اللاجئين التي وقعت عليها تركيا، والتي تمنح لحامل صفة اللاجئ عددًا من الحقوق، بما في ذلك حقّ عدم الإعادة إلى بلد المنشأ (مبدأ عدم الطرد)، حيث تنصّ الاتفاقية في أحد أحكامها الرئيسة "على عدم جواز إعادة اللاجئين إلى بلد يخشون فيه من التعرض للاضطهاد".
وقد تعهد المنافس الرئيسي لأردوغان، كمال كيليجدار أوغلو، بإعادة جميع اللاجئين السوريين في غضون أقل من عامين بغض النظر عن الظروف في سوريا، بينما بنى المرشح اليميني المتطرف سنان أوغان حملته على المشاعر المعادية للاجئين السوريين في بلاده، وانضم فيما بعد إلى تحالف أردوغان الذي أقدمت إدارته منذ أواخر عام 2022 على ترحيل مئات اللاجئين السوريين قسرًا.
وبرغم أن عنف المنفى والمظالم التي تعرّض لها السوريون في تركيا (والتي تكشّفت إثر زلزال شباط/فبراير الماضي وكذلك في الخطابات الانتخابية الأخيرة)، تُشكّل حافزًا للعودة إلى الوطن، إلا أنها لا تضمن بالضرورة أن تكون العودة الطوعيّة.
كيف إذًا يمكن ضمان عودة آمنة وكريمة للسوريين اللاجئين في تركيا؟
الإنفاق على إعادة إعمار شمال سوريا ينطوي على رغبة تركية بإقامة جمهورية بحدود جديدة
يُروَّج للعودة بأمان وكرامة كـ"حل دائم أمثل" لقضيّة اللاجئين في تركيا. هذا الحل قد يكون الأمثل لتركيا التي تعاني من أزمة اقتصادية حادّة. لكنّ الحال ليس كذلك من منظور اللاجئين السوريين. فالعودة بالنسبة لهم قضية مقلقة جدًا. والجانب "الطوعي" فيها عمليّة معقّدة ومشروطة بتوافر أربعة عوامل: أوّلها السكن، بما في ذلك القدرة على الوصول إلى الأراضي واستعادة الممتلكات، خصوصًا تلك الخاصة باللاجئين من المناطق الريفية؛ وثانيها فرصُ كسب العيش وتحقيق دخل يؤمّن حياة كريمة؛ وثالثها قدرة "المناطق السابقة" للاجئين على تلبية احتياجاتهم الماديّة الأساسيّة وتأمين الوصول إلى الخدمات الأوليّة؛ ورابعها الحماية الأمنيّة والحقوقيّة. لم توضع لهذه القضايا خريطةُ طريق واضحة تضمن عودة اللاجئين "بأمان وكرامة"، ما يُثير تحديًات معقدة ومخاوف مشروعة، ويجعل من العودة "الطوعية" أملًا تركيًا بعيد المنال، والعودة "القسريّة" كابوسًا يُخشى تحقّقه.
القضية الثانية: إدارة حكم ذاتي بإشراف تركي
يمكن القول إنّ هذه القضية هي الأكثر خطورة ومدعاة للقلق بالمعنى السياسي. إذ تحت شعار "الحفاظ على وحدة الأراضي السورية المشروط بالتخلص من الإرهاب"، يمكن أن تنشأ "رسميًا" منطقة حكم ذاتي على الأراضي السورية برعاية وإشراف تركيّين.
ذكرنا في مقالة سابقة بعنوان رؤية "قرن تركيا" في تشكيل مستقبل سوريا ـــ نُشرت في "أوان" ــــ كيف أن وثيقة "قرن تركيا"، وهي الوثيقة الرئيسية للبيان الانتخابي لحزب "العدالة والتنمية" الذي يرأسه أردوغان، ذكرت صراحة أن تركيا تمكّنت من القضاء على ممرّ الإرهاب من خلال مجموعة من العمليات العسكرية على الأراضي السورية ("درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام"....)، وهو ما أُعيد طرحه في الاجتماع الأول لمجلس الأمن القومي التركي لجهة القول إن وحدة الأراضي السورية مرهون بتطهير تركيا من المنظمات الإرهابية.
لذلك، من المتوقع أن تشهد الفترة الحالية حتى 26 تشرين الأول/أكتوبر، أي موعد الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية، استهدافًا تركيًا للجيوب الكردية في عين العرب ومنبج في شمال سوريا، وتل رفعت في شمال غرب سوريا (التي هددت تركيا بالتوغل البري فيها في تشرين الثاني/نوفمبر 2022). وتكمن الغاية من ذلك في العمل على تأمين شريط حدودي "متّصل" جنوب تركيا، من أقصى الشمال الغربي في محافظة إدلب إلى رأس العين في محافظة الحسكة، تحت مسمى "المنطقة العازلة"، وهو ما يمكّن تركيا لاحقًا من تحويل المنطقة إلى حيّز جغرافي يحوي اللاجئين العائدين من أراضيها.
وقد بوشر العمل وفق هذه الرؤية في 24 أيار/مايو المنصرم، عندما وُضع حجر الأساس لمشروع يضمّ 240 ألف وحدة سكنية في المناطق التي تقع تحت السيطرة التركية (جرابلس والباب ورأس العين وتل أبيض، وهي المناطق التي سيطرت عليها تركيا من خلال عمليتيها العسكريتين "درع الفرات" و"نبع السلام")، ستتوزع على 13 منطقة مختلفة في الشمال السوري، علمًا بأن المشروع لن يقتصر على بناء وحدات سكنية، بل سيضم مناطق زراعية ومنشآت صناعية وتجارية، وسيترافق مع إنشاء بنى تحتيّة، وفقًا لتصريح وزير الداخلية التركي السابق سليمان صويلو.
هذا الإنفاق على إعادة إعمار تلك المناطق، لن يكون هدية مجانية للدولة السورية. إذ إنه يعكس رغبة أنقرة بإقامة جمهورية بحدود جديدة، توازيًا مع إحياء المئوية الثانية لذكرى تأسيس الجمهورية التركية. أما الدعم الدولي الذي تنشده تركيا، فهو ينمّ عن رغبة بالحصول على تمويل ضخم لإنعاش اقتصادها المأزوم، ولو تمّ تسويقه تحت عنوان إعادة إعمار شمال وشمال غرب سوريا، في ظلّ استمرار الرفض الأميركي والأوروبي لإعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية.