منذ بدء الحرب، وشبح التضخّم يتصدّر قائمة الهموم لدى السوريين جميعًا ويوحّد هواجسهم. ومنذ العام 2020، انتقلت أرقام التضخّم من خانة الرقمين لتصبح مكوّنة من ثلاثة أرقام، ولتستمر في الارتفاع وتصل إلى 211% في تموز/يوليو من العام الحالي على أساس سنويّ، وذلك وفقًا لتقديرات ستيف هانكي، الخبير الاقتصادي في جامعة "جونز هوبكنز" البحثية.
فمن المسؤول عن هيستيريا التضخم في سوريا؟ وهل التضخم ناجم عن فشل في السياسات، أم هو انعكاس تلقائي للحرب الدائرة على الأراضي السورية منذ أكثر من عقد؟ وكيف يمكن لصنّاع السياسات التصرف حياله؟
المحرّكات الأساسية للتضخّم
تتشابه المحرّكات المولّدة للتضخم منذ العام 2011 حتى اليوم، مع وجود عناصر جديدة في السنوات التالية لعام 2019. وبرغم وجود اختلاف في وجهات النظر المفسّرة لأسباب التضخم، فإن أبرز مسبّباته يمكن إيجازها كالتالي:
أولًا، زيادة الطلب: منذ العام 2012، كان الإنفاق الاستهلاكي يفوق ما ينتجه الاقتصاد السوري من سلع وخدمات. وفي العام 2021، تجاوز هذا الإنفاق 140% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
ثانيًا، ارتفاع تكاليف الإنتاج الناجمة عن رفع حوامل الطاقة، إذ عدّلت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك أسعار المازوت الصناعي خمس مرّات بمقدار أكثر من 7 أضعاف (731%) بين تشرين الأول/أكتوبر 2020 واليوم.
ثالثًا، العرض النقدي: يمكن القول أيضًا إن التضخّم تضاعف بسبب المستويات العالية من المعروض النقدي، حيث غطّت الحكومة حاجتها إلى الأموال بشكل أساسي عن طريق طباعة النقود. وتمثّل أهمّ ما قامت به الحكومة في هذا الصدد بإدخال فئة نقدية جديدة (5,000 ل. س.) إلى التداول في العام 2021. وفي حزيران/يونيو الماضي، أعلن مصرف سوريا المركزي عن وضع أوراق نقدية جديدة في التداول من فئة 5,000 ل. س. أيضًا.
لا ينبغي أن يكون للاقتصاد الواحد أكثر من سلطة واحدة لتوليد الأموال كما هو حاصل في سوريا اليوم
رابًعا، التهرب الضريبي والفساد: إنّ تمويل عجز الموازنة عبر مصادر تضخّمية (طباعة العملة) ليس مردّه ضخامة الإنفاق العام فقط، بل ضعف الإيرادات الضريبية الناتجة من التهرب الضريبي أيضًا، فضلًا عن سوء إدارة الأموال العامة الناتج من عدم المساءلة وتفشّي الفساد.
خامسًا، التضخّم المستورد: نتيجة الحرب الروسية ـــ الأوكرانية، ارتفع سعر القمح والعديد من السلع والخدمات عالميًا، علمًا أن الاستيراد النظامي شكّل أكثر من 73% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2021، وهذه أعلى نسبة وصل إليها بالمقارنة مع السنوات السابقة.
سادسًا، الاحتكار وضعف الرقابة الحكومية: ترى الغالبية العظمى من المواطنين السوريين أنّ ارتفاع الأسعار مردّه انعدام المنافسة واحتكار بعض التجار العديد من السلع، وهو ما سمح لهم برفع الأسعار كما يشاؤون، في ظل ضعف الرقابة الحكومية عليهم.
المحرّك الخفي للتضخم الذي يتم تجاهله
غالبًا ما يتفاعل التضخم المرتفع مع الحروب والصراعات. لكنّ هذا لا يعني أن السياسات الاقتصادية منه براء. فالقضية أعمق من كونها مرتبطة بالحرب ومشكلات سلاسل التوريد الناشئة عن "قانون قيصر" و"كوفيد- 19" والحرب الروسية ــــ الأوكرانية، التي تلقفتها الحكومات المتعاقبة لإبعاد اللوم عن سياساتها، متجاهلة بذلك المحرّك الخفي لإذكاء التضخم، المتمثّل بأن سوريا السياسية باتت مكوّنة من مجموعة "جُزر" ذات نماذج اقتصادية مختلفة، ترتبط ببعضها البعض عبر قنوات غير نظامية.
لا ينبغي أن يكون للاقتصاد الواحد أكثر من سلطة واحدة لتوليد الأموال. ما يحدث في سوريا اليوم هو أنه، بالإضافة إلى مصرف سوريا المركزي في مناطق سيطرة الحكومة، ثمّة في مناطق شمال وشرق سوريا ــــ التي ما زالت تُستخدم الليرة السورية فيها إلى جانب الدولار الأميركي ــــ مكتب نقد ومدفوعات، برغم عدم القدرة على خلق الائتمان. إذ إن سلطة إصدار الليرة السورية بيد مصرف سوريا المركزي حصرًا. كذلك لا تتوافر مؤسسات ماليّة مصرفيّة بإمكانها أن تستثمر السيولة المالية الكبيرة (سواء بالليرة السورية أو الدولار الأميركي).
"الكثير من النقود يطارد عددًا قليلًا جدًا من السلع"
يعني هذا أن النقد المتداول في تلك المناطق يقع خارج "الأجهزة المصرفية"، وبالتالي خارج سلطة مصرف سوريا المركزي وتقديراتها. أما في إدلب والريف الشمالي لحلب، التي اعتمدت الليرة التركية في حزيران/يونيو 2020، فإنّ العملة المتداولة كبديل عن الليرة السوريّة إلى جانب الدولار الأميركي، أصبحت مرتبطة نقديًا بالبنك المركزي التركي.
بالتالي، فإنّ أي انخفاض في قيمة الليرة التركيّة سينتقل مباشرة إلى الداخل السوري، وهو ما يحدث حاليًا، حيث شهدت الليرة التركية انخفاضًا حادًا في قيمتها منذ العام 2021، واستمرّ الانخفاض في قيمتها خلال فترة الانتخابات التركية في أيار/مايو 2023.
وبناء عليه، فإن مصرف سوريا المركزي ليست لديه السيطرة الفعليّة على كامل السيولة المحليّة (سواء بالليرة السورية أو الدولار)، ومعظم القرارات الاقتصادية التي استهدفت المعروض النقدي وسعر الصرف كأهداف وسيطة لمعالجة التضخّم (مثل تجفيف السيولة بالليرة السورية، وتقييد سقف السحوبات وحركة الأموال بين المحافظات، وترشيد الاستيراد) لم ولن تجدي نفعًا.
ما الذي يجب أن يفعله صانعو السياسات الآن؟
يمكن اختصار محرّكات التضخم ـــ مع قدر من التبسيط ـــ بالعبارة التالية: "الكثير من النقود يطارد عددًا قليلًا جدًا من السلع". طبعًا، الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.
لكنّ المراد قوله أنه في ظل ضعف قدرة مصرف سوريا المركزي على التحكم بالنقود "الكثيرة"، تصبح السياسات التي تستهدف المعروض النقدي غير فعّالة (نسبيًا) في مواجهة التضخم. لذلك، ينبغي أن ينشغل صنّاع السياسات في البحث عن أفضل السبل لزيادة عدد السلع. بمعنى آخر، يجب على السياسة الاقتصادية أن تُحوّل اهتمامها إلى زيادة المعروض من السلع والخدمات المُنتَجة محليًا.
ليس هناك ما يمنع إدارة الاقتصاد السوري ــــ في مناطق سيطرة الحكومة ــــ بطريقة تشجّع على العمل والإنتاج
يتطلب هذا تجميد العمل مؤقتًا بالقرارات والتشريعات المعرقلة للأعمال، والتوقف عن دعم الإمبراطوريات الاقتصادية التي شوّهت بيئة الأعمال في سوريا. فسوريا، في واقع الحال، تحتاج إلى أعمال حرّة ومبادرات فردية يُسمح لها أن تبصر النور، قبل الاهتمام بعمالقة الأموال.
لكنّ تحفيز الإنتاج وحده لا يمكن أن يكبح التضخم إن لم يترافق مع مجموعة من الإجراءات والسياسات، التي نعرض أبرزها في ما يلي:
أولًا، ضبط حركة انتقال الأموال بين مناطق الحكومة السورية ومناطق شمال وشرق سوريا، وكذلك بين مناطق الحكومة السوريّة ومناطق إدلب وشمال غرب سوريا.
ثانيًا، ضبط التهريب عبر المنافذ الحدودية الرسمية. إذ إن حجم المستوردات غير النظامية أكبر بكثير من حجم المستوردات النظامية، وهو ما يشكل عامل ضغط كبير على سعر صرف الليرة السورية، ويضاعف بالتالي من التضخم، وهذا يستدعي ضبط الفساد.
ثالثًا، هذا الفساد هو ما أفقد الخزينة العامة للدولة جزءًا كبير من إيراداتها العامة (الضريبية واستثمار الأملاك العامة)، وهو ما قلّص من قدرة الحكومة على تحسين مستوى معيشة المواطنين، نتيجة عجزها عن توفير الخدمات العامة بالجودة المطلوبة وبتكاليف منخفضة.
هناك العديد من الدروس التي ينبغي تعلّمها. لكنّ التحدّي الأهم يتمثّل في كيفيّة صنع السياسات.
ليس هناك ما يمنع إدارة الاقتصاد السوري ــــ في مناطق سيطرة الحكومة ــــ بطريقة تشجّع على العمل والإنتاج. ما تبقّى مجرّد ذرائع لسياسات اقتصادية مُعيبة. وما لم يتمّ التغلب على قصر النظر في السياسة الاقتصاديّة وتجاوز النهج التقليدي في التفكير والتدبير، فإن تداعيات ذلك على الرفاه الاقتصادي والأمن الاجتماعي لن يكون حميدًا على الإطلاق، واحتمال التعافي قد يصبح حلمًا مستحيلًا.