رسالة من مواصي خان يونس

ستصل إلى الخيمة كل يوم متعبًا، مثكلًا بالهموم. تتمايل كشرائطها البالية المهترئة. وبصراحة، أنت هكذا محظوظ جدًا. محظوظ لأنك عدت إلى خيمتك قطعة كاملة.

يوم آخر من الإبادة. وصباح بلا سجائر، فسعرها من سعر الذهب الآن في غزة.

محظوظ من ارتشف فنجانًا من القهوة معدًّا على النار. لكن، إن أيقظتك القهوة، فمن الذي سيوقظك من هذا الكابوس الذي تعيشه؟ من سيقرُصك؟

تتداعى الأسئلة اليومية الممزوجة بالقهر. ما هذا؟ كيف حصل هذا؟ متى أصبحتُ في خيمة؟ لماذا تغسل زوجتي ملابسنا بيديها؟ لماذا تلعب طفلتي في الرمل الملوّث؟ كيف وصلتُ إلى هذه الصحراء؟ أين بيتي؟ متى كبُر ابني المولود في الحرب؟ هل سنكمل حياتنا في خيبة؟ وهل يا ترى ستتحمل هذه الخيمة رياح الشتاء؟

مواصي خانيونس، لا أعرف حتى لمَ سُمّيت بهذا الاسم، أو من أطلق عليها هذا الاسم. صحراء الله الكالحة، وشعب الله المنسي فيها.

شمسها قاسية على وجوه النازحين المتعبين، الواقفين في الطابور اللعين.

ستكون محظوظًا للغاية إذا كانت أقرب بئر مياه منك تبعد كيلومترًا واحدًا. ستمشي من أجل كلّ شيء هنا. لا رفاهية المواصلات موجودة، ولا الإنترنت يعمل بشكل جيّد، ودرجات الحرارة تُخرج من باطن الأرض أسوأ ما فيها؛ عناكب وسحالى وعقارب وحشرات غريبة.

لكنّك ستتأقلم، لا عليك. ستشعر بأنك على شفا الموت قهرًا، لكنك ستتأقلم.

بعدما تضع جانبًا فنجان القهوة قبل أن تكمله ــــ لأن ذبابة من الألف ذبابة التي تحوم في الخيمة ضلّت طريقها وانتحرت فيه ــــ تبدأ معاناتك الروتينية مع تعبئة مياه للشرب من أقرب محطة تحلية. الطابور هنا أكبر طوابير الحرب. بل هو غابة، على شكل طابور.

في آخر الليل، إن أردت أن تمشي في الشوارع، ستتمنى لو كنت كفيفًا، وستتعب من هول ما ترى

إن لم تكن مفترسًا في الطابور، ستكون فريسة. لا فائدة للتحصيل العلمي هنا. ستتجرّد من تحصيلك في هذا الطابور حتّى لو كنتَ عالم ذرة. وكل هذا من أجل غالون مياه، سعته عشرة ليترات، لعلّه يكفيك لبقية اليوم.

لكنّي لا أخفيك سرًا. ستشعر للحظة بنشوة الانتصار وأنت خارج من هذا الطابور بالغالون المعبأ. سيحدث هذا فيما زوجتك تغسل الملابس المهترئة على يديها.

ولعلك ستسأل: كيف تشحن هاتفك بلا كهرباء؟

ليست العملية معقدة كما تعتقد. ستبحث عن أحد مشاريع الطاقة الشمسية كي تشحن بطاريتك الصغيرة، ذات اللمبة الصغيرة، ومنها ستشحن هاتفك ذا الشاشة المكسورة، ومن ثم تشحنها مرة أخرى لتنير عتمة الليل.

بإمكانك أيضًا تبريد المياه إن كانت لك واسطة كبيرة. لكن مع غياب الشمس ستغيب هذه العملية معها بالطبع، وهكذا.

كل هذا فيما زوجتك تعدٌ الطعام، وتحمّم أطفالك.

بلغنا آخر اليوم. فرغت مياه الأمس، وبات متوجبًا عليك أن تمشي كيلومترات أخرى، لتنقل مياه الغد. طابور آخر، ومعاناة جديدة.

محظوظ من كان يملك عددًا من الغالونات. أما الأكثر حظًا فمن كانت لديه عربة، يضع عليها الغالونات المعبأة بمياه غير صالحة للحياة، ويجرّها.

كل هذا فيما زوجتك تجلي الصحون، من قنينة مياه.

ستصل إلى الخيمة متعبًا، مثكلًا بالهموم. تتمايل كشرائطها البالية المهترئة. تبحث عن شيء تسند إليه ظهرك، ثمّ تتذكر أنك في خيمة، حيث لا حائط ولا عمود ولا شيء تتكئ إليه سوى ضحكات العائلة التي تنسيك كل الوجع.

وبصراحة، أنت هكذا محظوظ جدًا. محظوظ لأنك عدت إلى خيمتك قطعة كاملة. لم تُستشهد، ولم يُبتر واحد أو أكثر من أطرافك، ولم يُصب عائلتك شيء من صواريخهم. لكن الصواريخ بالتأكيد أصابت عائلة أخرى. عائلة مكلومة، يا لحسرتهم وحسرتنا.

في آخر الليل، إن أردت أن تمشي في الشوارع، ستتمنى لو كنت كفيفًا. ستتعب من هول ما ترى.

عند كل مئتي متر، هناك عزاء أو مُصابٌ جالسٌ عند باب خيمته، ينظر إلى طرفه المبتور.

سترى زميلك في الجامعة يبيع الترمس، وسترى الحرامي يركب سيارة فارهة، وسترى التاجر يتغذى على المساكين. ستراه يُخرج ما في جيب امرأة فقيرة بعث لها أخوها المغترب في قطر مبلغًا بسيطًا.

سترى ما لا تستطيع احتماله. ألم أقل لك إنك ستتمنى لو كنتَ كفيفًا؟

أصعب الأشياء في هذه الإبادة أن تكون المعيل الوحيد لعائلتك. أن تكون أبًا أو أمًا أو أخًا كبيرًا أو أختًا كبيرة.

ستتنازل كثيرًا لكي تستمر عائلتك في العيش.

 

مالك الشنباري 

مواصي خان يونس

أيلول/سبتمبر 2024