حين قرأتُ خبر رحيل الروائي الياس خوري، هرعتُ إلى هاتفي كي أتصل بصديقي فايز عطاف. فقد كان الراحل كاتبنا الأثير. ثم تذكّرت أن فايز رحل أيضًا. فلم يكن مني إلا أن أغلقتُ الهاتف وغرقت في نوبة بكاء، كأني فقدت للتو صديقًا آخر تربطني به علاقة وثيقة.
لمَ لا؟
فقد عاشَت شخصيات روايات الياس خوري معي وعشتُ معها أكثر من أي صديق. تورّطتُ في حب يونس الأسدي بطل "باب الشمس"، وتماهيت مع زوجته نهيلا. ورحلتُ مع ميليا بطلة "كأنها نائمة" إلى الناصرة.
أنا في برلين، وثمة مشاعر لا يمكن ترجمتها، مثل الحزن والحنين. أليس هذا ما كان يعتَمل في عقل بطل رواية "سينالكول" حين يشتاق لرائحة التفاح اللبناني مع البن، ويُخفق في ترجمة هذه المشاعر؟ كيف يمكن ترجمة الرائحة؟
لم أقرأ روايات الياس خوري بتتابعها الزمني. كانت "باب الشمس" أول عمل أقرأه، عام 2000، أي بعد صدورها بعامين. هكذا قرأت تاريخ فلسطين من خلال حكاية يونس الأسدي ونهيلا، وهي حكاية كثير من الفلسطينيين الذين أبعدهم الاحتلال إلى لبنان بعد "النكبة"، وكانوا يتسلّلون إلى فلسطين. تحولت هذه الحكاية إلى حكاية حب وصمود ومقاومة.
الياس خوري الذي درس التاريخ في الجامعة اللبنانية وحصل على الدكتوراه في التاريخ الاجتماعي من باريس، يعود إلى التاريخ دائمًا ليروي الحكايات. حكايات تتناسل من بعضها بعض، وتجتمع لتكون القصة الرئيسية. يتعدد الرواة في الرواية وتختلط الأزمنة ويتداخل الخطاب الروائي، ليشكل فيما بعد بتقنية عالية رواية محكمة أشد الإحكام.
وهذا ما يقوله إدوارد سعيد في مقدمة الطبعة الإنكليزية لرواية "الجبل الصغير": "خوري يَحبُك الفصول من غير نسيج أو نسق يمكن التنبؤ به". فالتاريخ على لسان خليل في رواية "باب الشمس" مجرد وهم أكثر ملموسية وخشونة. الحكايات هي التاريخ الفعلي، وحاصل جمع هذه الحكايات الصغيرة يساوي الحكاية الكبرى للّجوء والهزيمة والموت.
لا يكتفي الياس خوري برواية واحدة، وكأن الرواية بطل بألف وجه.. وكأن ثمة ثقوب في نسيج الحكاية عليه أن يرتيها
تحضر الحرب الأهلية في لبنان، ولا تغيب فلسطين عن رواياته، وتتداخل حكاية لبنان مع فلسطين في معظم هذه الروايات. كأن الحرب وفلسطين هما النقطتان المرجعيتان الرئيستان اللتان يعالجهما باستمرار من خلال قصص وحبكات جديدة.
ففي رواية "الجبل الصغير" الذي تحضر فيه الأمكنة كبطل رئيسي، مثل الجبل الصغير "حي الأشرفية"، الكنيسة، ساحة الملك، الدرج ... يُرغم بطلها على مغادرة منزله والقتال في الشوارع. ويبدو البطل، ضحية هذه الحرب، مرتبكًا ومشوشًا، شأنه شأن لبنان، بين حرب أهلية ولاجئين فلسطينيين وهويات طائفية تتناحر.
غيّرت الحرب الأهلية في لبنان جميع المعايير الأخلاقية والاجتماعية، وهذا ما يظهر جليًا في رواية "يالو" التي تحمل اسم بطلها السرياني الذي لم يفهم لِمَ عليه أن يتلقى عقابًا بسبب بضع جرائم سرقة واغتصاب، في حين جرى اغتصاب وذبح آلاف النساء والرجال حوله في الحرب، ولم يتلقَّ أحد عقابه؟
أليس يالو ضحية أيضًا لجميع الظروف التي ألمّت بلبنان؟ بقي سؤال يالو عالقًا في ذهني حين كان الناس يتحدثون عن الشرف والأخلاق في بلاد تُنتهك كل يوم.
في رواية "سينالكول"، وهي رواية عن بيروت ما بعد اتفاق الطائف، يرى الياس خوري أن الحرب لم تنته ولن تنتهي أبدًا، بل ما زالت مستمرة في أنفسنا.
والحرب ضمير مستتر تقديره نحن، وصدى الحرب ما زال يتردد في جنبات لبنان وعلى ألسنة الناس. فأولاد زعماء الحرب الذين كانوا أطفالًا ما زالوا يصرون على الروايات الطائفية نفسها، ويملكون السلطة والمال، ويمنعون أي تنمية تقوم من دونهم.
يبدو تداخل التاريخ اللبناني والفلسطيني واضحًا في "كأنها نائمة". فميليا بطلة الرواية مسيحية لبنانية من عائلة متزمتة دينيًا، تتحدى عائلتها وتتزوج من رجل فلسطيني من يافا في أربعينيات القرن العشرين، وتنتقل في ما بعد للعيش مع زوجها في الناصرة قبل "النكبة".
وبرغم أن ميليا متدينة ولا تهتم بالسياسة، إلا أنها كانت تدرك على نحو ما أن تغيّرات خطيرة تحصل من حولها ولا تفهمها. تنام ميليا ومناماتها هي القماشة التي تقوم عليها الرواية، فيتداخل الواقع بالخيال، ويراود ميليا شعور بأن فلسطين سوف تضيع. إلا أن ميليا المتدينة تحمل جنينًا وتهجس بأن جنينها هذا سوف يموت مقتولًا، وفي مقتله سوف يكون خلاص فلسطين. جنينها سوف يكون قربانًا لجميع التحولات التي تجري في هذه الأرض المقدسة.
حين قرأتُ الرواية بدأت أقارن بين ميليا ومريم العذراء، ولم أخف اندهاشي بكيف استطاع الياس خوري البناء على قصة يسوع الناصري رواية تُنبئ بضياع فلسطين من خلال منامات ميليا، واستغربت، في الوقت نفسه، كيف مرت تحت عين الرقيب المسيحي من دون عقاب.
الياس خوري الذي كان محاربًا في صفوف المقاومة الفلسطينية والتحق بها في شبابه في الأردن، دافع عن الفلسطينيين بعد خروجهم من لبنان عام 1982، وبادر ورفاقه إلى تنظيف مقابر الفلسطينيين وإضاءتها بالشموع.
يعود في كل مرة ليروي تاريخ فلسطين من خلال حكايات متعددة. لا يكتفي برواية واحدة، وكأن الرواية بطل بألف وجه. وكأن ثمة ثقوب في نسيج الحكاية عليه أن يرتيها: هل هذه الأرض التي اسمها فلسطين هي مجرد حكاية تسحرنا بأسرارها وطلاسمها، ولماذا حين نستمع إلى هذه الحكاية لا ننام، بل نموت؟
الياس خوري كان على الدوام يصدح بصوت الضحايا، مهما اختلفنا معه في هذا الموقف أو ذاك
لم يغرق الياس خوري في الميلودراما، لكن في "مملكة الغرباء" التي صدرت عام 1993، يروي بطل الرواية، الذي يعمل في جامعة "كولومبيا"، حكايات المقاومة الفلسطينية في مخيمي صبرا وشاتيلا، ويتتبع هذه الحكايات ويربط بين خيوطها ليصل إلى القصة الرئيسة.
تتداخل حكاياته، كما في جميع رواياته، مع قصة حبيبته مريم. فيروي حكايات الغرباء اللاجئين في لبنان، الذين لا يجمعهم سوى الحنين والألم والصدق والحب.
هكذا يمكن لحكايات عن بشر عاديين أن تُغرقك في نوبات بكاء لا تنتهي، من دون أن يتعمد الياس خوري ذلك. وهذا ما حصل لاحقًا في رواية "باب الشمس". رواية تسرد تاريخ "النكبة" الفلسطينية من خلال سرد حكايات الفلسطينيين الذين تم نفيهم من فلسطين أو الذين بقوا فيها.
يستعيد فيها الماضي، لا لمجرد السرد، بل ليذكرنا، على الدوام، بأن جرحًا نازفًا اسمه فلسطين لا يجب أن يُنسى، ويردد على لسان نهيلا بطلة الرواية: "لن يكون لنا هناك وطن قبل أن نموت جميعًا"، وترنّ العبارة في أذني ونحن نشهد أكبر عملية إبادة جماعية في غزة، وكأن الموت الفلسطيني يتناسل منذ "وعد بلفور" إلى الآن.
لا يكتفي الياس خوري بسرد حكايات الفلسطينيين في فلسطين ولبنان، بل يتبعهم في المنافي، ويعود لينكأ التاريخ مجددًا، فيبدأ روايته "أولاد الغيتو ــــ اسمي آدم" بسرد قصة الشاعر وضاح اليمن، الذي دُفن حيًا في صندوق خشبي جراء حبه لأم البنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك. وحين أبدأ بقراءتها، أستغرب: ما الرابط بين وضاح اليمن وآدم دنون المهاجر الفلسطيني الذي شهد مجزرة اللد الرهيبة، والذي يغير هويته ويدوّن مذكراته ومشاهداته، ويرحل تاركًا هذه المذكرات حتى يأخذها الراوي؟
يبدأ بسرد حكايته. تبدأ الرواية بفكرة بسيطة، وهي نَسبُ الفلافل إلى المطبخ الإسرائيلي، لتتشعّب فيما بعد، وتكشف كيف تنسحب سرقة الفلافل على كل شيء، بدءًا باستلاب الأرض والتاريخ ومحو الهوية الفلسطينية، وانتهاء بالحمّص، وكأن الراوي بإنقاذه مذكرات آدم ونشرها في العلن، يصرخ باسم الضحية، ويحفر عميقًا في التاريخ ليُظهر جذور الفلسطينيين الضاربة في أرضهم، حتى لا تُدفن فلسطين الجميلة حية كما حصل مع وضاح اليمن، الشاعر الذي فُتن الأعراب بجماله.
كنتُ أتابع الياس خوري، وهو على سرير المرض، يكتب مقالاته عن فلسطين في "القدس العربي". وأقول في سري، يا له من مقاوم صنديد. يقاوم المرض والموت بالكتابة.
الياس خوري المثقف المقاوم الروائي كان على الدوام يصدح بصوت الضحايا، مهما اختلفنا معه في هذا الموقف أو ذاك. فهو من الذين علّمونا كيف يكون المثقف عضويًا ويقاوم العسف أينما كان.
ارقد بسلام.