القضية أبعد من "الموديل العاري"

يتكرّس اليوم سلطان جديد غير مكتوب في سوريا. لا يُعلن نفسه رسميًا لكنه حاضر في كل تفصيل، من إدارة الجامعة إلى سيارة الدعوة وترديد الأطفال شعاراتهم المدرسية.

خرجتُ من أحد المتاحف وسط برلين، حيث أعمل، وكان الوقت مناسبًا لجولة في المكان. فوقفت أتأمّل بعض التماثيل المنتصبة في الفضاء العام.

ثلاث نساء عاريات من برونز بارد ولامع، يقفن على تماس بين الطبيعة والحجر، وبين الحاضر والأسطورة.

الأولى لامرأة تقف بثبات، مستقيمةً مشدودة الذراعين، ممسكة بقوسها، ومستعدّة لإطلاق سهمها. إنها "رامية السهم". عمل مدهش في توازنه للنحات فرديناند ليبكي.

أمّا الثانية فلـ"إله الصيد" ديانا، كما تخيّلها الفنان راينهولد فيلدرهوف، لا كرمز للقوّة فحسب، بل كامرأة تنتمي إلى الغابة والهواء والحرية.

فيما الثالثة لـ"غاسلة الملابس" للفنان أوغست رينوار، تنحني بهدوء لتجمع ما يبدو ثوبًا أو قطعة قماش مبتلّةً بالماء، في لحظة من التأمل أو الشرود.

كل امرأة من النسوة البرونزيات تلك تروي شيئًا عن الحريّة، وعن الجسد، وعن قدراتهن، وعن الأنوثة التي ليست موضوعًا للنظر، بل ككينونة فاعلة في فضاء المدينة العام.

وبينما كنت أتأمّل ملامحهنّ ودقّة صنعة الفنان في كلّ منهنّ، تداعى إلى ذاكرتي مكان آخر: كليّة الفنون الجميلة في دمشق حيث درست وتخرجت قبل أكثر من عقد من الزمن، في عام 2012 على وجه التحديد.

حين انتسبتُ إلى كليّة الفنون الجميلة عام 2008، كنت أحمل حلمًا صافيًا بالفنّ والحريّة وإمكانية التفكير خارج الصناديق الجاهزة التي قولَبنا المجتمع داخلها.

كنتُ في الخامسة والعشرين من عمري، أبحث عن الفن بوصفه مساحة للتنفس والتعبير. فبعدما تخرّجت من معهد الأعمال الإدارية ومن مركز الفنون التشكيلية، خطر لي أنّ الكليّة ستكون مساحتي الأرحب.

أُعجبتُ يومها بكثير من أساتذتي، إذ كانوا قد اشتغلوا على مشاريع عدّة ــــ بينها ما يرتبط بموضوعات الجسد العاري ــــ بجرأة وشغف فنيّ خالص. وكانت هذه مفارقة لافتة. فالكليّة التي تدرّس النحت والتصوير والحفر، وكثيرًا من مدرسيها ومدرّساتها عملوا وعملن على موضوعات الجسد العاري، كان الجسد العاري غائبًا فيها!

لم يكن ممكنًا أن يجلس أمامنا شخص عارٍ لنتعلّم التشريح ودراسة الجسد. كان أقصى ما يمكن أن نحصل عليه هو موظف من الكليّة يشمّر عن ساقيه وساعديه ويجلس أمامنا لنرسمه.

وكنت أتساءل دومًا: كيف سنتعلّم رسم الجسد البشري إذا لم نره؟

في سنتي الثالثة في الكليّة، وبدافع الفضول، أجريت استطلاعًا صغيرًا بين الطلاب والأساتذة حول موضوع الجسد العاري. فعلمت أنّ الكليّة كانت قد سمحت به بالفعل، في سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يُمنع لاحقًا. قال بعض الأساتذة إن سبب منعه حينها كان نوعًا من استرضاء بعض البيئات الإسلاميّة المحافظة.

وكانت المفارقة المزعجة بالنسبة لي هي أنّ معظم المدرسين الذين عارضوا وجود الموديل العاري في الكلية، كانوا قد عملوا أنفسهم على هذا الموضوع في مرحلة ما من حياتهم. قالوا لي يومها: "اللي بده يرسم موديل عاري، ياخذه على مرسمه الخاص".

هكذا، تخرجّت من الكليّة دون أن أرسم يومًا موديلًا مباشرًا.

كانت الثورة السورية قد بدأت قبل تخرجي بعام. وفي الفترة التي كنتُ أجرى فيها استطلاعي، فرأيت فيها امتدادًا لأحلامي بالحريّة؛ حرية الفكر والفن والجسد.

المسألة لم تعد متعلّقة بالموديل العاري أو بحدود "الذوق العام" فحسب، بل تتجاوزها إلى تديين متزايد للفضاء العام

في آب/أغسطس 2025، صدر عن عمادة كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق قرارٌ رسميٌ يمنع "تشكيل أعمال تتعلق بالموديل العاري في مجالات النحت والتصوير والخزف". وقد نصّ القرار على أنّ أي مخالفة ستُعاقب بعلامة الصفر.

لاحقًا، برّر عميد الكلية القرار بالقول إنّه "تأكيد على تقاليد أخلاقية واجتماعية"، وإنّه جاء نزولًا عند رغبة بعض أولياء أمور الطلاب. وقال أيضًا إنّ "القرار ليس جديدًا، بل امتداد لمنعٍ قديم، وإنّ المقصود بالمنع هو الموديل الحي العاري لا الأعمال الفنية المتخيّلة".

بيد أنّ التبريرات، مهما بدت متماسكة، تكشف شيئًا أعمق. قد يكون الخوف من الجسد الحي، ومن العين التي ترى بحريّة، واليد التي ترسم ما لا يمكن السيطرة عليه.

وبرغم ما أثاره القرار من جدل واسع بين الفنانين والطلاب وتجمعات التشكيليين، وبرغم البيانات التي طالبت بإلغائه ووصفته بالـ"اعتداء على حرية الفن"، إلاّ أنه لم يُلغَ حتى اليوم، ولم يصدر أي تعديل أو مراجعة أو تلميح من الجامعة أو وزارة التعليم العالي بالتراجع عنه.

ومع ذلك، لم يطبّق القرار فعليًا. إذ قدّم بعض الطلاب مشاريع تخرجهم التي تتضمن الموديل العاري، ولم يُعاقبوا أو تُسجّل ضدهم مخالفات من أي نوع.

وهنا يتسلل السؤال: لماذا صدر القرار أصلًا؟ ما الذي كانت الحكومة أو إدارة الجامعة تحاول جسّه بهذا القرار؟ هل كان اختبارًا لرد فعل المجتمع الفني، أم مجرّد إشارة رمزية إلى حدود جديدة لما هو مسموح وممنوع؟

وإذا لم يكن الهدف تطبيق القرار، فلماذا لم تصدر وزارة التعليم العالي أو عمادة الكليّة قرارًا مضادًا يلغي الأوّل استجابة لمطالب الطلاب والفنانين؟

هل تركوا الباب مفتوحًا لاحتمال تفعيله لاحقًا؟ أم أنّهم أرادوا فقط أن يُبقي الفنانون رؤوسهم منحنية في حذر دائم؟

صعب قراءة هذا القرار بمعزل عن المناخ العام الذي تعيشه سوريا اليوم. فالمسألة لم تعد متعلّقة بالموديل العاري أو بحدود "الذوق العام" فحسب، بل تتجاوزها إلى تديين متزايد يتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية والتعليمية والفنية، من المظهر الشخصي إلى تحية الصباح في المدارس، وصولًا إلى شكل الرايات التي تُرفع إلى جانب علم الدولة.

كل شيء صار محاطًا بخطاب ديني أخلاقي من لون واحد يحدد المسموح والممنوع، حتّى في الفنون التي كانت تاريخيًا آخر ما تطاله الرقابة.

في شوارع المدن والبلدات، تتجوّل ما يسمى "سيارات الدعوة" مزودة بمكبرات صوت تدعو الناس إلى التقوى والالتزام، فيما تنتشر مجموعات من النساء المنقبات يقفن في الطرقات والأسواق لنصح النساء بالحجاب والستر، وتُقيّم المرأة الصالحة من غيرها بناء على ما ترتديه.

ولا يتوقف الأمر عند حدود الشارع، إذ تسلل هذا الخطاب إلي كواليس المؤسسات الرسمية نفسها. ففي بعض الدوائر والمكاتب الحكومية، أصبح وجود الشيخ أو "المستشار الشرعي" أمرًا مألوفًا، يطّلع على القرارات قبل تمريرها، ويكون قرار تمريرها مرتبطًا غالبًا في ما إذا كانت منسجمة مع القيم الدينية التي يتبناها أم لا.

على هذا النحو يتكرّس سلطان جديد غير مكتوب. لا يُصدر القوانين لكنه يتحكم في روحها وتنفيذها، ولا يُعلن نفسه رسميًا لكنه حاضر في كل تفصيل، من إدارة الجامعة إلى سيارة الدعوة وترديد الأطفال شعاراتهم المدرسية.

من هذه الزاوية يبدو لي أنّ قرار كليّة الفنون ما هو إلاّ تجسيد رمزي آخر لتحوّل أعمق: تحوّل يجعل الجسد، بوصفه مرآة الحريّة والذات، موضع تهديد، لا مصدر جمال أو معرفة. المنع هنا لا يستهدف الموديل فحسب، بل يستهدف الفكر الحر الذي يُخشى.

حين أنظرُ إلى تماثيل "رامية السهم" و "ديانا" و"المستحمّة" في برلين، أفكّر في معنى أن يكون الجسد بشكل عام، والأنثوي بشكل خاص، حاضرًا في الفضاء العام دون خوف وصاية ودون اتّهام.

في برلين يقف الجسد في الشارع أمام العيون جميعها، فيتحوّل من موضوع للمراقبة، إلى جزء من الحياة اليومية.

أمّا في دمشق، أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، فحتّى في كليّة الفنون الجميلة، لا يزال الجسد محجوبًا خلف طبقات لا تنتهي من الخوف، محاصرًا بالمحرّمات والمبررات الأخلاقية. وسيبقى كذلك حتى يدرك القائمون على الكلية ومشغلوهم، أنّ الفنّ، في جوهره، ليس فضيحة، بل تمرينًا على النظر الحر، وأنه حين يُمنع الجسد من أن يكون مادةً للتعليم، يُمنع الفكر من أن يكون حرًا أيضًا.

بين التماثيل التي تتنفس في حدائق برلين، وكلية الفنون التي تصدر قرارًا بالمنع، هناك مسافة ليست جغرافية فحسب، بل ثقافية وروحية وإنسانية. ثمّة فضاء يزداد اتساعًا، وفضاء يضيّق على العقل وكل شيء.

ربّما لهذا السبب، حين توقفتُ أمام تلك التماثيل في جزيرة المتاحف في برلين، لم أرَ البرونز فحسب، بل رأيت نفسي، الطالبة الحالمة القديمة، والفنانة اليوم، والمواطنة التي لا تزال تؤمن بأنّ الحريّة تبدأ من فكرة، ومن نظرة، ومن جسد يُفهم ويُحتفى به.

بين ولادتين: أيلول يدوّن بداياتي وانكساراتي

لا أعتقد أنّ أمّي تخيّلت أنّ أيلول، شهر مولدي، سيشكّل أهم المنعطفات في مسار حياتي. في كلّ أيلول يولد فيّ...

كفاح علي ديب
لاجئاتٌ سوريّات: آخرُ الدواء الطلاق...

يُتداول خبر طلاق سيدات سوريات بوصفه ظاهرة يمكن التعامل معها بتعميم تغصّ به وسائل التواصل الاجتماعي اليوم:...

كفاح علي ديب
من أجل سوريا حرّة، كريمة، وآمنة

هنا في المهجر يسهل كل شيء، التنظير والمطالبة باستمرار العمل الثوريّ، توزيع الشهادات الثوريّة، وشهادات الخ...

كفاح علي ديب

اقرأ/ي أيضًا لنفس الكاتب/ة