عن غدٍ سوريّ سيأتي...

كولاج سوري لأفراد أرادوا مقارعة الموت بما هو أجمل.

صورة الغلاف: ذات يومٍ شتوي في بلدة صلنفة، اللاذقية - من أعمال أنس اسماعيل


إعداد: يامن صابور

ما من حربٍ تستمر إلى الأبد. ولكن الحرب إذ تستعر تقتل معها الحبّ والجمال والأمل حتى تصبح ممارسة هذه الأمور شكلاً من النضال للحفاظ على الحياة. في الحرب السورية تشظّت أرواح الناس في خوفٍ وقمعٍ واغترابٍ وفقدٍ كما تشظّت أجسادهم بفعل القنابل والمفخخات والتعذيب. وإذ يتمدد العنف، يقضم شيئاً منّا في كلّ حين. وحين ينتشر الرهاب نصير ذكرى جيرانٍ ورفاقٍ أو مجرّد أفرادٍ مجهولي الهوية. هنا بعضٌ من فناني سوريا ممن رفضوا اعتياد الفتك، والتطبع مع القسوة، وسعوا نحو هدفٍ آخر غير الموت، فخلقوا سوريا مختلفة في ألحانٍ وصورٍ ولوحات فيما هم يعيشون ضراوة الذكرى والتجربة والهوية.


أتلمّس وجهي كل صباحٍ فأدرك أني ما زلت على قيد الحياة. لا أحد على الإطلاق سيخرج معافى مما مررنا ونمر به. إلا أنني أدير ظهري للجدار كلّ صباح، وأغادر بيتي حاملاً كاميرتي وأمشي. أقف بين أعمدة تدمر وألتقط أجمل البورتريهات لزنوبيا في مملكتها. أتلمّس بين الأعشاب البريّة الفوضوية زهرة أقحوانٍ وأصورها بأجمل حليها. أزهار النرجس تنمو أمام عيني بتسارعٍ يشبه "تايملابس" فأصورها كل ثانية حتى تكتمل. هذا أنا الذي بات يلتقط الضوء واللون بعد ما أنهكه السواد ورائحة البارود وتحلّل الأزهار.

الجامع الأموي في دمشق - من أعمال أنس اسماعيل

 

*****

كلّما توحش الواقع جنحتُ نحو أنسنة الفن. لا أريد أن نعتاد التوحّش، ولا أن نجمّله ولا أن نصوّره بهدف محاربته. الجمال عندي هو ما يقتل التوحش وهو ما يمحوه. لنتذكّر أننا بشر وأن لدينا أحلامنا البسيطة، وهواجسنا، وابتسامتنا في وجوه من نحب. لنتذكّر، حتى لو نسي العالم ذلك، أن الفن سيفٌ في وقت السِّلم يرتاحُ على الجدار متباهياً بزخارف غمده، أما في وقت الحرب، فعليه أن ينسلَّ من غمده ليأخذ دوره في الدفاع عن الإنسانية الكامنة فينا.

من أعمال مجد كردية (2021)

 

*****

أتوق لرائحة الياسمين تلفُّ المكان بطاقةٍ من السعادة، وجوقة الجامع الأموي ترفع آذان المغرب فيما أرتشف الشاي بالنعناع في مقهى "النوفرة" المجاور. "عليك أن تختبري العيش في سوريا،" كانت أمي تردد على مسامعي. حبّها لوطنها الأم، وتوصيتها هذه، دفعاني كي أنتقل للعيش في دمشق. كان يجب أن أعيش هناك لأفهم سبب حبّها الكبير للبلاد. عندما اشتعلت الحرب، شعرت بروحي وكأنها تنسحق. كانت أمي قد توفيت قبل أربع سنواتٍ من بداية الحرب، وكانت سوريا الشيء الوحيد الذي تبقّى لي منها وممّا كانت تمثّله. عندما أخذت النار في طريقها كل شيء، شعرت وكأن أمي ماتت للمرة الثانية. لهذا أسعى كي أبقي دمشق وسوريا حيتين في موسيقاي، وبهذا أنا أبقي أمي على قيد الحياة أيضاً.

"غداً" من سويت حكواتي للأوركسترا - تأليف وتوزيع أوركسترالي: سعاد ساهر بشناق
قيادة أوركسترا: غسان العبود أداء: أوركسترا المغتربين السوريين الفلهارموني
كونسرت هول برلين 2016

*****

سأله أحد الموسيقيين بلباقة: "لماذا تأثرت باكياً أنت الأوروبي وكأن علاقة حنين ما تربطك مع الموسيقى السورية؟" فأجابه: "لقد شاهدنا كل الصور في موسيقاكم ورأينا فيها سوريا. لا حاجة للكلمات، فالموسيقى أبلغ اللغات وهي ما لمس قلبي اليوم".

هل يمثل تفاعل الجمهور من إعجاب وتصفيق ودموع جائزتنا الكبرى؟ أم هي مقالات النقد الإيجابي التي تكتبها الصحافة الأوروبية عن موسيقانا؟ أم إنها "جائزة هوليوود الموسيقية في الإعلام" لأفضل أداء عن فئة الأوركسترا للأداء الحي الذي قدمته أوركسترا المغتربين السوريين الفيلهارموني على مسرح "كونسيرت هول" في برلين لمقطوعة "غداً" من تأليف الموسيقية السورية سعاد بشناق؟

هذه كلها لحظات جميلة، لكن جائزتنا الأكبر هي تلك الرسائل التي وصلت إلى صفحة الأوركسترا من دول الجوار السوري أرسلها لاجئون سوريون يعيشون في مخيمات الشتات. "استمروا. أنتم صوتنا"، قالوا لنا. هؤلاء جميعهم سوريون مشردون عن وطنهم، يفتقدون الغذاء والطبابة ومحرومون من حق التعليم والعمل، ولكنهم ما زالوا يرون في الموسيقى نوراً يشق ظلام حياتهم. هم الملهمون. نكاد نجزم إننا رأينا أجمل العيون أثناء حفلنا في أحد مخيمات اليونان في وجوه مليئة بالحب والأمل والتحدي والعنفوان. نؤمن بأنهم سيحققون أحلامهم يوماً مهما طال الزمن ومن أجلهم نستمر في العزف. لقد استطعنا أن نتحد كموسيقيين سوريين في المهجر وأن نجوب أوروبا مع موسيقانا. ليست أحلامنا مستحيلة. سنتحد في سوريا أيضاً ونجوب كل مدنها. سيكون يوماً لكل مدينة أوركسترا، ولكل طفل آلة موسيقية يحملها بدلاً من السلاح، يذهب بها إلى مدرسته لا إلى ساحة القتال. علينا كلنا أن نعمل بدأبٍ كي نحقق التغيير والبناء في مستقبلٍ أفضل. يدٌ بيدٍ، وستنتهي الحرب.  

عمل مبني على اللحن الرئيسي لأغنية "حلوة يا بلدي" - تأليف وعزف كمان منفرد: جهاد جذبة
أداء أوركسترا المغتربين السوريين الفيلهارموني

 


 


هل كان يسوع ثائرًا؟

إنْ كان من دُعيا باللّصين ثائرين، فهل كان يسوع ثائرًا أيضًا؟ لعلّ كتّاب الأناجيل أسقطوا بعضًا من المادة..

أوان
سوريا وتقنين العيش

من دمشق إلى حلب مرورًا بالعاصي فالجزيرة والساحل، توحّدُ السوريين معيشةٌ تُظللها عتمة الأيام، وتتعطل..

أوان
3 أسئلة لبيار ستمبول، الناطق باسم "الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام"

"معظم الجمعيات اليهودية في فرنسا تدعم جرائم إسرائيل وتعتبرنا خونة". ما الذي يقوله بيار ستمبول، الناطق..

أوان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة