فاتورة مجهولة
يبدو الساسة اللبنانيون عمومًا معزولين شعوريًا عن المجتمع وعاجزين عن تفهّمه. وكيف لا يكون ذلك وهم مطمئنون وآمنون من الحساب والمساءلة؟ هناك تحت "الرماد" كمٌ هائل يتراكم في مشاعر الغضب، سيخرج عند أول لحظة فراغ.
يبدو الساسة اللبنانيون عمومًا معزولين شعوريًا عن المجتمع وعاجزين عن تفهّمه. وكيف لا يكون ذلك وهم مطمئنون وآمنون من الحساب والمساءلة؟ هناك تحت "الرماد" كمٌ هائل يتراكم في مشاعر الغضب، سيخرج عند أول لحظة فراغ.
غالبية اللبنانيين تتخذ خيار الانكفاء والاحتجاج السلبي، كونه الخيار الأسهل، ونظرًا لعدم توفر قوى قادرة على تعبئتها، أو خوفاً من سطوة القوى المسيطرة وانعدام الأمل بالتغييرتؤدي هذه المظالم والفوارق إلى تفكيك روابط الهوية المشتركة داخل الجماعات نفسها، وتتراخى الخيوط بين المجتمع والنخبة السياسية، فيصبح السياسي هو "الآخر" الخصم ومصدر التهديد، هو المستغل الذي استخدم عنوان الجماعة لينتفع بها مع القلة حوله على حساب إفقار الجماعة. هنا يجهد المستوى السياسي لإعادة تعبئة الهوية المشتركة عبر تضخيم السرديات حول مظلومية الجماعة (خطاب الضحية) والمبالغة في ترسيم الحدود بينها وبين الجماعات الأخرى. وحين يصبح المستقبل مشكوكاً به ومحفوفاً بالمخاطر عليك وعلى أولادك، تُضاف إلى المظالم والفوارق عواملُ الخوف والقلق، التي يكون لها دور يزيد من مشاعر التشاؤم والنقمة. اللبنانيون اليوم عموماً ناقمون ومتشائمون، وهو ما يُخرج كتلًا متزايدة منهم عن الخطوط الرئيسية للقوى الطائفية، إما باتجاه محاولة التمرد وخلق البديل والمواجهة، وإما باتجاه الانعزال والخروج من المجال العام والانكفاء. من المرجح أن الغالبية تتخذ الخيار الثاني، أي الانكفاء والاحتجاج السلبي، كونه الخيار الأسهل، ونظرًا لعدم توفر قوى قادرة على تعبئتها، أو خوفاً من سطوة القوى المسيطرة وانعدام الأمل بالتغيير. لكن الواضح أن شعور السخط يتزايد في الظل والعلن، فالوطن تحول إلى سلطة، والسلطة إلى نخبة ظالمة، والضريبة أصبحت، والحال هذه، أشبه بخوّة. يبدو الساسة في العموم معزولين شعوريًا عن المجتمع وعاجزين عن تفهّمه (أي تقمّص وجدانه ومواجعه وتقديره لأزمة البلاد والمسؤول عنها). وكيف لا يكون ذلك وهم منعّمون ومستقرون ومطمئنون وآمنون من الحساب والمساءلة؟ هناك تحت "الرماد" كمٌ هائل يتراكم من مشاعر الغضب، سيخرج عند أول لحظة فراغ، على الأرجح على شكل فوضى. الساسة اللبنانيون ليسوا استثناءًا، فالمجال السياسي العربي عانى من حالة الإنكار ذاتها. إذ حين أحرق البوعزيزي نفسه (ولحق به آخرون)، تساءل كثيرون خارج الحدث عما إذا كان ضبط عربته وصفعه يستحقان ردة الفعل هذه. من زرع القهر عليه أن ينتظر النقمة، فالخطابات الرنانة غدت عقيمة، و"هضامة" الزعماء صارت مسخرة، وتمثيليات الفاسدين "الخيرية" تقتل من الملل، وصدور الناس امتلأت، وستفيض مع كل قطرة.