من فضائل "كورونا" أنها أكسبتني شيئًا من المعرفة في القانون والتأمين البحريّ. نعم، نعم... التأمين البحريّ.
منذ بداية الجائحة، قبل عامين، انتقل زوجي إلى العمل من البيت، وحوّل إحدى غرفه إلى مكتبٍ بطاولة كبيرة تتداخل على سطحها الأسلاك وتنتصبُ فوقها الشاشات والكتب والمراجع. كل يوم، أصحو على أصوات اجتماعات افتراضية تناقش الـ Clause A والـ Clause C والـ Deductible. أستمع إلى اتصالات هاتفية مع الـ Brokers للتفاوض حول شروط التجديد أو مواصفات الشحنة. تثير فضولي بعض المصطلحات، فأسأل زوجي عنها ساعةَ استراحته أو بعد انتهاء عمله. يفسّرُ لي معنى الـ Endorsement، ويشرح بإسهاب أنواع السفن والفحوصات التقنية التي تخضع لها كل بضعة سنوات. يلذّ له الحديث عن موضوع حجز السفن Ship Arrest ويعرّجُ على إشكالية القرصنة وارتباط هذه الظاهرة المعقّدة بقضايا العدالة والاستعمار والتضامن الإنساني، فيفتحُ بذلك بوابات أكثر للأسئلة والنقاش.
البارحة، قادنا الكلام إلى ما يسمى بـ "العواريّة العامّة"، بالانكليزية"General Average"، وهي من أقدم مبادئ القانون البحريّ، تعود أصولها إلى قانون رودُس (نسبة إلى جزيرة رودس في اليونان) والذي يعدّ أول وثيقة تتبنّى مبدأ "الخسارة المشتركة" عن طريق "الرمي في البحر"، وذلك منذ حوالي 900 سنة قبل الميلاد. عَرَف هذا المبدأ مراحل متعددة من التطوير والتوسع وفق اتفاقيات متلاحقة أهمها قواعد يورك/أنتوِرب لعام 1890 ثم 1924 و1950 و1974 و1990 وصولًا إلى اتفاق عام 1994 في مدينة سيدني الذي أعاد صياغة مبدأ العوارية العامة بإضافة شروط وتعديل أخرى.
وبتبسيط شديد، وربّما مُبتَسر لتسهيله على غير المختصّين، يعرّف لي زوجي "العوارية العامة" فيقول: هي مبدأ في التأمين البحري يتمّ بموجبه تقاسم الخسارة من قبل الأطراف كافّة، جراء إعلان قبطان السفينة عن تضحية أو مصاريف متعمَّدَة بكيفية معقولة بهدف إنقاذ السفينة أو حمولتها أو طاقمها من خطر حتميّ وشيك.
يقرأ زوجي في عينيّ رغبةً في الاستزادة، فيكمل: "يعني، إذا تعرّضت الرحلة البحرية لخطر يهدد سلامتها، لِنَقُلْ عاصفة مثلًا أو حريق، يحقُّ للقبطان أن يعلن العوارية العامة فيضحّي بجزء من البضائع أو كلّها، إما برميها في البحر أو إتلافها، بغرض إنقاذ باقي عناصر الرحلة. أي التضحية بالجزء لإنقاذ الكل. وجرّاء ذلك، تُقَسَّم الخسارة والمصاريف على الأطراف المستفيدة كافة من وصول الرحلة سالمة، وهم غالبًا مُلّاك البضائع ومن خلفهم المؤمِّن البحري، وأحيانًا مُلّاك السفينة نفسها".
أطلبُ أمثلة، فيحدّثني عن انفجار عشرات الحاويات في سفينة Hyundai Fortune عام 2006 في خليج عدن. وعن الحريق الذي نشب في أحد مخازن سفينة Maersk Honam العملاقة في بحر العرب عام 2018. ثم ينتقل إلى واقعة إغلاق قناة السويس بسبب سفينة Ever Given في آذار 2021 وآثارها الاقتصادية وارتداداتها القانونية والتأمينية التي ماتزال مفتوحة حتى اليوم.
أهمُّ بطرح المزيد من الأسئلة، فيقطعُ عليّ الطريق اتصالٌ من أحد عملائه يستعجل فيه الاطلاع على شروط البوليصة الجديدة في ظلّ ارتفاع أجور الشحن مؤخرًا. أتركُ زوجي لشؤونه القانونية البحرية، وأعود إلى طاولتي لأجاورَ كُتبَ الأدب وعوالم الأدباء.
ألم نكدّس على سفينتنا أطنانًا من المفاهيم الموروثة والمستوردة بلا غربلة ولا تعزيل، حتى تداخلتْ واهترئتْ وأفرزتْ لنا عفنَ العشوائية والحَرْفية والتعميم؟في المساء، يلمحُ زوجي بين يديّ كتابَ "رجل في الظلام" لـ "پول أوستر"[1] فيسألني باستغراب: - ألم تُنهي هذا الكتاب منذ فترة؟ - بلى، لكنني الآن أستعين به لإعداد مقال أفكّر في كتابته. - عمَّ؟ - عن تضمين الأفكار والآراء النقدية في النصّ الأدبي. أرى في ملامح وجهه تشجيعًا للمتابعة وتحرير أفكاري من تردّدها وخجلها. فأُسَوّي جلستي، وأتنحنح، وأتخذ بسعادة وضعيّةَ من حان دوره في الكلام: - يعمدُ بعض الكتّاب إلى تضمين نصِّهم الأدبي أفكارًا وآراء نقدية، وإن لم يكن لها علاقة مباشرة بموضوعة النص الأساسية. مثلًا: في رواية "رجل في الظلام" - التي تحكي عن رجل متقاعد في نقاهة مَرَضيّة يتخيّلُ تاريخًا بديلًا لأميركا لم يسقط فيه البرجان ولم تُرسَل الجيوش لغزو العراق، بل قامت حرب أهلية أميركية - في هذه الرواية، يفرد أوستر فصلًا من عشر صفحات ليناقش على لسان إحدى شخصياته ثلاثة أفلام سينمائية: لصّ الدرّاجة، الوهم الاكبير، عالَم آپو[2]. فيعرضُ نظريةً سينمائية يسمّيها "إحياء الأشياء"، يشرحها بالتفصيل عن طريق تحليل عناصر الصورة وحركة الكاميرا وزمن اللقطات، وحتى الحوار المحذوف أو المُستغنى عنه. ليقدّم بذلك نقدًا فنيًّا شبه متكامل عن لغة هذه الأفلام وعبقرية مخرجيها. - وما رأيكِ أنتِ بذلك؟ - رأيي، باختصار، أن تضمين النص الأدبي آراء نقدية يحتاج إلى تكنيك خاصّ بالغ الخطورة والحساسية، فإما أن يعلو بالعمل ويضيف إليه عُمقًا معرفيًا وقيمةً فنيّة، أو يهوي به إلى فخاخ الحشو و فجاجة الاستعراض. كما أنني أميل إلى التمسّك بـ "وحدة النص" بحيث تكون كل نأمةٍ فيه، كل تشبيه، كلّ حرف في خدمة أسئلته الكبرى أو على اتساق شديد معها ومع بيئة العمل وشخصيّاته. وإلا فحذفُ كل ما يمكن حذفه، مهما بدا جميلًا أو جديدًا أو مفيدًا. بمعنى آخر؛ أنا مع حسن التوظيف لكل ما يتضمنه النص. - وهل أحسنَ أوستر التوظيف؟ - طبعًا، أوستر موهوب بارع بهذه التقنية. سأعطيكَ مثالًا آخر: في روايته "حماقات بروكلين"[3] يترك الكاتب الفذّ إحدى شخصياته تلخّصُ أمامَنا على الورق رسالةَ تخرجٍ جامعية في الأدب المُقارَن بين إدغار آلن پو وهنري ديڤيد ثورو[4]، تصوّر! في رواية من 376 صفحة يطالع القارئ بسلاسة ما يشبه المحاضرة عن أديبَين من أهم كتّاب أميركا؛ عن إسهاماتهما في هذا الأدب وتحررّهما -كلٌ على طريقته - من التأثيرات الإنكليزية والأوروبية، عن أعمالهما وأدواتهما، نظرتهما إلى واقع بلدهما، أفكارهما عن الحياة والعقل والكتابة، نقاط التقاء وافتراق أسلوبيهما، ثم حياتَيهما المتنافرتَين وموتَيهما المبكّرَين. - يبدو أنك أحسنتِ الإعداد. امضي في مقالك، وأنا بانتظار القراءة.
لماذا لا نعتبر، مثلًا، دعوات تجديد الخطاب الديني وتغيير القوانين ومناهج التعليم خطوات افتتاحية لإعلان العوارية العامة؟أعدّدُ لزوجي أسماء الكتّاب الذين تعجبني طريقتهم الذكّية في بناء نصوصهم التي تحتوي أفكارًا نقدية أو معارف ومعلومات عامة تخدم النص ولا تودي به إلى متاهات الإطناب والابتذال. أستشيره بأسماء بعض الأعمال التي أنتوي أن أدعم مقالي بها. ثم نختم حديثنا بنميمةٍ لابدّ منها عن كتّاب وصحفيين يتحفوننا بتنظيراتهم ومعلوماتهم الملمومة من العناوين والمصادر "الخُرَندَعيّة"، يُقحِمونها بافتعال في أعمال أدبية أو مقالات أو حتى منشورات فيسبوكية تستجدي الانبهار والإعجاب من قارئ أصبح على بُعد إصبعٍ واحد من أطنان الأفكار والمعارف حول العالم. يأفلُ النهار، نأوي إلى فراشنا وفي رأسِ كلٍّ منّا تتزاحم مهام يوم عمل جديد ينتظرنا غدًا. يعزّ عليّ النوم، فأستغلُّ الأرق في ترتيب بعض الأفكار. أفتّشُ في ذهني عن أمثلة أخرى لأوردها في المقال. أفكّر في كتبٍ ونظريات نقدية يمكن أن تساعدني في الإعداد. يختفي من رأسي كل شيء، لا أعثر بين حاصل القراءات والخواطر إلّا على كلمتَين: "العواريّة العامة"! وحدها تتمشى في ممرّات تفكيري وتناديني. أنهضُ إلى الكمبيوتر وأبدأ البحث: العُوَار في اللغة هو العَيب. والعوارية في التأمين البحري إما عامة أو خاصة، لكلّ منها مقوّمات وأركان ومصاريف مسموحة وغير مسموحة. أُهملُ الخاصّة وأتابع التنقيب خلف العامّة. دراسات متفرّقة ومصادر عربية قليلة بترجمات ركيكة ومصطلحات غير مُوَحَّدة. أستعين ببعض المصادر الإنكليزية ثم أتركُها لتمنّعها على غير المختصّين. أقرّر أن أسأل زوجي لاحقًا عنها وعن الترجمات الأفضل برأيه. أُجَرِّدُ التعريفَ من أساسه القانوني وأتأمّلُ في مفهومه. يعجبني، ويخطر لي أنه صالحٌ للتوسعة والتعميم. أراجعُ الشروط لأتأكد من فكرتي:
- أن يكون الخطرُ حتميًا ووشيكًا. 2. أن يكون فِعْلُ العوارية العامة مقصودًا ومتعمّدًا. 3. أن تكون التكاليف والخسارات معقولة وناتجة بشكل مباشر عن فِعل العوارية العامة. 4. أن يكون هدف التضحية الأساسي هو السلامة العامة. كلّها متوفرة إذن! فلماذا لا نخرج بالعوارية العامة من القانون البحري إلى مجالات القانون كافّة؟ ولماذا لا نعلن العوارية العامة في المؤسسات والمدارس والجامعات؟ ولماذا لا نتبنّاها أيضًا في الثقافة واللغة والفكر والفنّ؟ لماذا لا نترك ما راكمناه من مسلّمات ومقدّسات مادام الهدف هو إنقاذ وجودنا؟ ألم نكدّس على سفينتنا أطنانًا من المفاهيم الموروثة والمستوردة بلا غربلة ولا تعزيل، حتى تداخلتْ واهترئتْ وأفرزتْ لنا عفنَ العشوائية والحَرْفية والتعميم؟ ألا تفوحُ من آرائنا روائح التناقض والتعنّت؟ ألا تشتعلُ بضاعتنا بنيران الإقصاء والإقتتال والتكفير؟ سفينتنا تنوءُ منذ زمن بحاوياتها. والخطرُ، بلا شك، حقيقيٌ ووشيك. فلماذا نتمسّكُ بما سيُغرِقنا ويفنينا؟ لماذا نجرّبُ المُجَرَّب ونصرُّ على الوقوف مُثقَلين على باب المستقبل، فإما أن ندخل مع كراكيبنا أو نظلّ خارجَه مُهَدَّدين؟ لماذا لا نفعلها ونتقاسم الخسائر ونرمي أثقالنا في البحر، ثم نتفرّغُ لإصلاح سفينتنا وتجهيزها للإبحار من جديد؟ حتى إذا كلَّفَنا ذلك التخلّي عن الحمولات السليمة، حتى وإن ضحّينا بما يمكن أن يلزم، أليست النجاةُ بالمركب والركّاب أجدى وأهمّ؟ لماذا لا نعتبر، مثلًا، دعوات تجديد الخطاب الديني وتغيير القوانين ومناهج التعليم خطوات افتتاحية لإعلان العوارية العامة؟ أصلُ بتساؤلاتي إلى لحظة الإعلان، أتخيّلُها، وأتخيّلُ ما يسبقها من اضطرابات واعتراضات ومخاوف، أسمعُ مئات الأصوات الرافضة والمُشَكِّكَة، أسمعُ تخوينات واتهامات بالتهوّر والاستفراد بالرأي. ثم فجأة، يعلو فوق كلّ شيء صوتٌ ثابتٌ واثق، صوت القبطان، صاحب الكلمة الأخيرة والمُخَوّل الوحيد اتخاذَ القرار. تسبقني أفكاري إلى حيث لا أحتمل ولا أجرؤ، فأتراجعُ مقدارَ فكرتَين إلى الوراء.