دردشات على هامش الزلزلة

أي مفارقة هذه: "عقدة الناجي تكاد تستحق جنسية سورية فخرية، في بلادٍ لم ينجُ أحدٌ من أبنائها"!

"عادي، عادي، هي الهزات الارتدادية شي طبيعي وان شاء الله ما بتخوف"، أقول هذا لأمي، ثم أنصرف إلى تقريع نفسي: أي منطق هذا؟ كم يلزم من الوقاحة كي أقول لمن يعيش في عين الخطر "ما بتخوف"؟ كيف أقول ببساطة: "طبيعي"؟ أأظنها كلمة تبعث على الطمأنينة و"العدو" هذه المرة لم يكن سوى "شيء طبيعي"؟!

(2)

"طمني".. أقول لصديق يسكن في تركيا، بينما أفراد عائلته يتوزعون بين أربع مناطق منكوبة في سوريا وتركيا. يردّ: "الحمد لله، لسة ما بعرف شي عن حدا منهم".

"طمني"؟ ما أتفه اللغة بالفعل!!

(3)

"شو صار مع فلان"، أسأل صديقًا عن صديق مشترك، ليخبرني كيف ذهب صديقنا إلى حيث تسكن عائلته فوجد المبنى أنقاضًا، بحث بين الأنقاض، بحث وبحث بمساعدة البعض، وحين وصل إلى أمه أمسكت يده، ثم أسلمت الروح. أما والده فلم يُعثر له على أثر بعد، وشقيقه في المشفى في حالة حرجة.

هل أملك الجرأة على السؤال من جديد: "شو صار معه"؟ لا، بكل تأكيد.

(4)

"أهلًا بك في نادي عقدة الناجي"، أجبتُ صديقتي تعليقًا على قولها: "منيحة، ما بعرف ليش حاسة بالذنب"، ثم أسهبتُ ببساطة متخففًا من هوسي بالمصادر: "يمكن من بين كل 100 سوري نجا، بتلاقي 90 مصاب فيها بشكل أو بآخر، حتى ولو عبّر عنها بعدوانية".

انتهت تلك المحادثة، غير أنني ما زلتُ حتى الآن أفكر في ما حواه كلامي من مفارقات؛ إذ هل يمكن الجمع في جملة واحدة بين "سوري"، و"نجا" حقًّا؟ وهل يحتاج الأمر فعلًا إلى إحصاءات ومصادر للقول إن تلك العقدة لا تكاد تغادر أحدنا؟

"الله يحميكم"... أكرر اللازمة نفسها في ختام مئات التواصلات اليومية، كما فعلنا جميعًا على امتداد السنوات الماضية

أي مفارقة هذه إذًا: "عقدة الناجي تكاد تستحق جنسية سورية فخرية، في بلادٍ لم ينجُ أحدٌ من أبنائها"! ها أنا مرة أخرى أتخفف من هوس المصادر والتحقق، وأُطلق تعميمًا. لقد فعلتُ هذا كثيرًا في اليومين الماضيين، انطلقتُ في نشاط "فيسبوكي" محموم، أشارك كثيرًا مما يظهر أمامي من معلومات عن المعونات والإغاثة، منشورات تحوي أرقام هواتف شخصية، وأخرى تحدد احتياجًا في هذه المنطقة، وتورد قوائم بأسماء ناجين في تلك... نعم، لقد فعلتُها شأني شأن كثيرين سواي، ولم أشعر بالذنب. "لا وقت لهذا الشعور"، أقول لنفسي، ثم أفكر: كم مرةً حصل هذا على امتداد نكباتنا الماضية؟ ولماذا علينا افتراض أن لدى المنكوبين متسعٌ للتحقق والتأكد دائمًا؟

(5)

"بدي رأيك: الناس ما عندها بيوت ترجع عليها.. شو الحل وشو فينا نعمل؟". يسألني صديق مغترب، يبحث بشتى الوسائل عن طريقة للمساعدة، أجيبه بكلام أندم عليه بعد قليل إذ يبدو لي كلامًا يبعث على الإحباط: "أظنّ أن هذا الأمر أكبر بكثير من قدرة الأفراد، خصوصًا في حلب.. المشكلات في عمليات الإغاثة وفي توزيع المعونات مخيفة".. أقول كلامًا كثيرًا لكن "على الخاص" فقط، فـ"هلأ مو وقت هالحكي"، ثم أكتشف أن الصديق يعرف كل ذلك الكلام، وتفاصيل ما يحصل: مناطق تشكو من زيادة عدد البطانيات، وتحتاج فوطًا نسائية، طعامٌ كثير هنا، وعشرات يحتاجون خبزًا هناك، أنقاض هنا وهناك، وتحتها أحياء محتملون، وربما لا أحد يعرف بوجودهم، والكثير الكثير وسط هذه "الفزعة العارمة".

أتبدو صفة "عارمة" غريبةً هنا إذ اعتدنا استخدامها مع مفردة "فوضى"؟ ربما، لكنني على يقين من صواب استخدامها مع هذه "الفزعة".

(6)

"الله يحميكم"... أكرر اللازمة نفسها في ختام مئات التواصلات اليومية، كما فعلنا جميعًا على امتداد السنوات الماضية، لكن بتكثيف أكبر. تمامًا مثل كل ما يحصل في الأيام الثلاثة الماضية، تكثيف مهول لكل شيء مهول، حتى لكأننا نشاهد trailer فيلمٍ طويل طويل طويل، فيلم نعرفُ كل ما في أحداثه من رعب وشقاء. "الله يحميكم"، ثم أعاود البحث والقراءة عن "عقدة الناجي"، ثم عن معنى "نجا" في المعاجم:

نجا من الشر: سلم (...) نجا الذبيحة: سلخ جلدها (....) نجا الشجرة: قطع غصونها..

أما الآية "فاليوم نُنجيك "ببدنك" ففسرها البعض "اليوم نُهلكك".. "وقال ابن بري إِذا نجا الإِنسان ببدنه على الماء بلا فعلٍ فإِنهُ هالك*".

*لسان العرب، لابن منظور

من مذكرات مراسل: أنا وبيلاجيا سياف وأبو مالك التلّي

"إجت النصرة.. صلوا لنا". كان هذا أول ما قالته لي الأم بيلاجيا عبر الهاتف لحظة دخول "النصرة" إلى معلولا..

صهيب عنجريني
ابتسمي أيتها الدراما

ثمة مسلسلات يَفترض فيها الكاتب الذروة التي يريد من الأحداث أن تصلها، ثم يبدأ في قيادة سلوكيات الشخصيات..

صهيب عنجريني
من "أمستردام" إلى غزة: حكاية "ديمقراطية" جدًّا

"حين تتسلق الشمولية السلطة، تعمل على تدمير التقاليد السياسية والاجتماعية والتشريعات القانونية... وتسيطر..

صهيب عنجريني

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة