مع فوز الكاتبة الفرنسية آني إرنو بجائزة “نوبل” للآداب لعام 2022، لعلّها المرّة الأولى التي يُعلَن فيها اسم الفائز/ة بجائزة “نوبل” للآداب ويجد القارئ العربي بين يديه كلّ هذا العدد من أعماله/ــا مترجماً إلى لغته، بعضها أكثر من مرّة.
صدرت ترجمة أمينة رشيد وسيّد البحراوي لرواية آني إرنو “المكان” عن دار شرقيات في مصر في عام 1994 (بعد 10 سنوات على صدورها في لغتها الأصلية في عام 1984)، مع تقديم للقارئ العربي بقلم الكاتبة، ختمته بالقول: “إذا كان ثمة تحرر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناس مجهولين في تجربة مشتركة. ولمن يعيش ممزقاً بين ثقافتين، ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى، وقيمة، وجعله، في النهاية، لا يُنسى.
هذا العمل المكتوب بواقعية جافّة وبصدق شرس لا هوادة فيه، هو مذكرات إرنو عن والدها، وهو يبدأ بوفاة الوالد كمحفّز للذكريات التي تلي الوفاة: أب متواضع من بيئة فلاحية متواضعة رسمتْ معالم حياته البالغة وحدودها، وابنة متعلّمة، وفجوة طبقية وثقافية تفصل بينهماـ وفشلٌ في سدّ تلك الفجوة.
صدرت بعد ذلك، في عام 1997، وفي كتاب واحد، وعن دار شرقيات أيضاً، ترجمة هدى حسين لعمليّ إرنو “امرأة” (1987) و”عشق بسيط” (1991). وسوف تعيد سحر ستالة ترجمة هذين العملين في كتابين مستقلين ويصدران في عام 2019 عن دار الجمل في ألمانيا بعنوان “امرأة” و”شغف بسيط”!
في “امرأة”، ثمّة تبصّر بحيوات النساء وحقائق مكتوبة بنثر مقتصد وخشن. ويستند هذا العمل إلى علاقة إرنو بوالدتها، فتصور وفاة امرأة ريفية من الطبقة العاملة من خلال عيون ابنتها المنسلخة التي حصلت على تعليم جامعي بعد أن وفّرت المرأة وزوجها ما يمكّنهما من إرسال ابنتهما إلى الجامعة. وفي هذا العمل الذي يتناول قضايا الطبقة والعمر والجندر، تُظهر إرنو عجز الوالدة عن سرد قصتها.
أمّا “عشق بسيط” فهو أشبه بسجل لعلاقة هوسية شبيهة بعلاقات المراهقة بين امرأة ورجل متزوج على مدى عامين. وهي تُعنى بتفاصيل الحياة العاطفية والجنسية النهمة لبطلتها، في تكريس للحقيقة المتدفقة وحدها من دون خجل أو تردد.
في عام 2003 صدرت ترجمة هدى حسين لرواية إرنو “الحدث” (2000) عن دار ميريت في مصر (كما صدرت في عام 2019 ترجمة سحر ستالة للرواية ذاتها عن دار الجمل!). ويكاد هذا العمل أن يكون شهادة مهمة ومؤثّرة في تاريخ حقوق المرأة. إذ تعود فيه إرنو مرة أخرى إلى القصص الشخصية، لا سيما الإجهاض غير القانوني الذي أجرته عندما كانت شابة في ستينيات القرن العشرين وسبق أن عرضت له في عملها الأول “الخزائن الفارغة” (1974).
في عام 2005، صدر عن المركز القومي للترجمة في مصر ترجمة نورا أمين لعمل إرنو “لم أخرج من لَيْلِي” (1997) الذي يعرض بالتفصيل للسنوات الأخيرة في حياة والدة إرنو وقد هدّها مرض ألزهايمر جسدياً وعقلياً. وهي تصف في هذا العمل بكل قوة وحيوية مرئيات غرفة أمّها المريضة وروائحها وتكمل ما سبق أن بدأته في امرأة من تفحّص علاقة الأم المضنية الممضة بابنتها. وفي عام 2016، أعادت نورا أمين نشر “لم أخرج من ليلي” ومعه “البنت الأخرى” (2011) في كتاب واحد صدر عن دار أزمنة في عمّان. وهذا العمل الأخير هو نصّ قصير تعود فيه إرنو إلى موضوع سبق أن تناولته في أعمال سابقة، ويقع عند تقاطع الاجتماعي والحميم. وهو مكرّس لسرّ عائلي لم يُفَه به بين الأهل وابنتهم ويلقي بثقله على طريقة بنائها لشخصيتها ومهنتها الأدبية.
تترابط أعمال إرنو فيما بينها على الرغم من استقلال كل منها بحدّ ذاته فكل كتاب يعيد صوغ الكتابات السابقة ويصححها وينقحها ويستثمرها من جديد
في عام 2011، صدرت، عن دار الجمل أيضاً، ترجمة اسكندر حبش لرواية إرنو “الاحتلال” (2002) وكان يمكن ترجمتها بـ”الانشغال” أيضاً، بمعنى الانشغال بالشيء حدّ الهوس. فهي رواية عن الغيرة تبدأ بانتهاء علاقة غرامية دامت ست سنوات مع رجل. وما يزعج الساردة في هذا العمل ليس انتهاء العلاقة، بل المرأة الجديدة التي تدخل حياة الرجل. إذ تغدو مهووسة بها ذلك الهوس الذي يتفاقم بسبب رفض الرجل كشف أيّ شيء عنها، مع أنَّ معرفة عمرها ومهنتها وحقيقة أنّ لديها ابنة لا تقلّل من هوس الساردة أو انشغالها (احتلالها)، كما تسميه.
في عام 2017 صدرت عن دار الجمل ترجمة لينا بدر لعمل إرنو “انظر إلى الأضواء يا حبيبي” (2014). وهو مكتوب على هيئة يوميات دُوِّنت بين نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 وأكتوبر/ تشرين الأول 2013، عن زيارات الكاتبة لأحد مراكز التسوق تحكي فيه عن الحياة في السوبرماركت مع تحليلات واضحة ومعمقة للمجتمع الاستهلاكي وحياة الفئات والطبقات الاجتماعية المختلفة كما تنعكس في المتاجر.
في عام 2021، صدرت، عن دار الجمل أيضاً، ترجمة مبارك مرابط لعمل إرنو “مذكّرات فتاة” (2016). وهو عمل روائي سيري ذاتي يغوص في ليلة لا تُنسى من صيف عام 1958، هي أول ليلة للساردة مع رجل، وتداعيات ذلك اللاحقة عليها.
وُلدت آني إرنو في الأول من سبتمبر/ أيلول 1940. وكما هو واضح من أعمالها المترجمة إلى العربية، فإنّ تركيزها هو على الرواية السيرية الذاتية التي تستكشف العواطف البشرية والخلفية الطبقية والثقافية للشخصيات والحياة الخاصة بصدق وجرأة لا تتزعزع وبنثر متقن كأنها تتفحّص قطعة أثرية نادرة تحت عدسة مكبرة، أو كأنّها تمارس التشريح بالكلمات.
من أعمالها المهمة الكثيرة التي لم تترجم بعد إلى العربية، روايتها الأولى “الخزائن الفارغة” (1974) التي تتذكّر فيها طالبة جامعية تتعافى من إجهاض غير قانوني آلام طفولتها، وتسعى إلى فهم كيف وصلت إلى هذه الحالة من اليأس وتلقي باللائمة على الظروف التي غرّبتها عن أبويها اللذين ينتميان إلى الطبقة العاملة وضحّيا بنفسيهما من أجل رفاهيتها. وكذلك روايتها “السُنُوْن” (2008) التي يعدّها كثير من النقّاد أبرز أعمالها، وحازت على جوائز عديدة. وهي رواية تتنقّل بين صور للكاتبة التُقطت بين عامي 1941 و2006، ولوحة لهذه الفترة من الزمن ترسمها من خلال الذكريات المحفورة في عقلها والتي تختارها لأهميتها الاجتماعية. وبذلك يختمر ستون عامًا من التاريخ الشخصي وغير الشخصي والجماعي في آن معاً.
من الواضح أنَّ أعمال إرنو تترابط فيما بينها على الرغم من استقلال كل منها بحدّ ذاته. ذلك أنَّ كل كتاب يعيد صوغ الكتابات السابقة ويصححها وينقحها ويستثمرها من جديد. ولعل أساس هذا الترابط هو الموضوع: ذات الكاتبة في المجتمع، حيث تمّحي في عمل إرنو الحدود بين العناصر التخييلية والسيرية الذاتية والمجتمعية، وبين العناصر الخطابية والتمثيلية، ما يفضي بنا إلى التشكّك في الحدود المفترضة بين الاكتشاف والصنع، بين التجديد والخلق؛ وإلى مساءلة فكرة الأدب ذاتها وتعريفه نفسه.
وإلى هذا كلّه، وفي القلب منه، فإنَّ إرنو تبدي عن انتماء سياسي يساري وعن التزام قضايا المقهورين أينما وجدوا، لا سيما أنّها هي ذاتها ابنة أبوين من الطبقة العاملة وتعرف معنى الإقصاء وطعمه. ومن هنا انتقادها ما تمارسه إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني.