انتهيت لتوي من تجربة "درامية" طريفة نفّذتها على مدار أيام، وهي مشاهدة مسلسل سوري من المنتصف. اخترتُ واحدًا من مسلسلات هذا الموسم، يحظى بتفاعل واحتفاء كبيرين، وباشرتُ مشاهدة حلقاته بدءًا بالحلقة 15، فالحلقة 14.. وهكذا وصولًا إلى الحلقة الأولى.
بعدها، عدتُ إلى مشاهدة الحلقة 16، فتاليتها، وصولًا إلى الحلقة 20، وأنوي بالطبع المواصلة حتى الحلقة الأخيرة.
بدأ هذ الأسلوب في المُشاهدة مصادفة، ثم خطرت لي فكرة، وقررت المضيّ في الأمر بحثًا عن تفاصيل تتعلق ببناء الشخصيات الرئيسة في المسلسل، وعلى وجه الخصوص شخصية البطل الأول.
بعد أن تحوّل الأمر إلى "تجربة"، ألزمتُ نفسي وظيفةً هي تدوين ملامح الشخصية الأولى في العمل ومواصفاتها كما بدت لي في الحلقة 15، ثم كما شاهدتُها في الحلقة الأولى، ومرة ثالثة كما رأيتها في الحلقة 20.
يا للدهشة! و"الله محيي الثابت"! ظلّت صفات تلك الشخصية راسخة كما هي، ولم يلحقها تحوّل جوهري ملحوظ. فلا مسارات الحدث أثّرت في روح الشخصية، ولا تحوّلات الشخصية أثرت في سكة الحدث، برغم كل ما مرت به من أحداث وتقلّبات أحوال.
لا أتحدث هنا عن أداء الممثل، بل عن الشخصية الدرامية بوصفها فاعلًا ومنفعلًا، وعنصرًا أصيلًا مفترضًا في أي عمل درامي (هذا بفرض أننا متفقون على أن الحدث وحده لا يصنع دراما، كما أن الحوار وحده لا يفعلها).
من المتعارف عليه في قوالب الكتابة السائدة، أن تاريخ أي شخصية درامية ينقسم إلى جزأين أساسيين: منذ الولادة وحتى لحظة بدء العمل الدرامي، ومنذ بدء العمل حتى نهايته. لكنّ هذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ هذين الخطين عبارة عن سكّتي قطار، توصل إحداهما إلى الأخرى، ثم نواصل الطريق في القطار ذاته، وعلى المسار ذاته، ولو شهد انحناءات، وتكويعات، وانحرافات.
ولا يعني هذا أيضًا ما قد يفهمه البعض من أنّ البناء الدرامي الذكي هو بالضرورة ذاك الذي يفضي بالشخصية البطلة إلى تحوّل دراماتيكي حاد. وبرغم أهمية هذا النموذج، فالطريق إليه عادةً ما يكون أغنى منه (أيهما أهم؟ التحول في جوهر شخصية والتر وايت في المسلسل الشهير Breaking Bad؟ أم كل انزياح صغير في بنائيتها، وصولًا إلى المحصلة الأخيرة؟).
حين يكون البناء مجرد حبر على ورق، فالمحصلة التي سيفضي إليها هي مجرد فقاعة درامية سرعان ما تزول
زد على ذلك أن بعض الشخصيات تُبنى بطريقة آسرة من دون أن نشهد انقلابًا في بينتها الأخلاقية، أو حتى ظروفها الاجتماعية. بعضها قد تُنهي العمل الدرامي على الصورة ذاتها التي بدأ بها، ولكنها مع ذلك تكون قد قدّمت لي بوصفي مشاهدًا عوالم بأكملها من الدراما النفسية، صاعدها وهابطها، مركّبها وبسيطها، أثّرت في الحدث، وتأثرت به، فصنعت دراماها الخاصة ضمن إطار الدراما الجمعية للحكاية التي يقدمها هذا العمل أو ذاك. ومن ثمّ، وبفضل التناغم بين الدراما الخاصة بكل من الشخوص الأساسية ونظائرها، وبينها وبين دراما الحكاية بعمومها، يُقدّم إليّ المُنتج الكلي / الحصيلة النهائية / الدراما الزبدة!
في ضوء كل ما تقدم يمكن تفسير بعض، وربما أهم أسباب خلود شخصياتٍ بعينها في الدراما السورية يصعبُ نسيانها، والأمثلة كثيرة: نجيب في الفصول الأربعة، مطر في ذكريات الزمن القادم، بثينة في زمن العار...
يفهم بعض (ربما: كثير من) الكتّاب المسألة بطريقة يغلب عليها الاستسهال، فيقرر في لحظة ما أن يكشف لي عن سبب تأتأة هذه الشخصية، أو مبعث الرهاب الذي يطبع تلك الشخصية، فيقدم لي مشهداً بتقنية "فلاش باك" يظهر فيه بطله طفلًا يتعرّض للتعنيف طوال الوقت، أو مراهقة تحرّش بها قريبها... أو إلى آخر ما هنالك من مقترحات مشابهة. حقًا؟ يا للإبداع!!!
حتمًا سيكون لأداء الممثل دور مفصلي في خلود هذه الشخصية أو تلك، غير أن الفضل الأساسي يعود إلى بنائها، إلى "الورق" الذي قدّم بنية دسمة في الأصل تحوي لحمًا ودمًا وروحًا.
أما حين يكون البناء مجرد حبر على ورق، فالمحصلة التي سيفضي إليها ــــ مهما كان الممثل بارعًا في أدائه ــــ هي مجرد زَبَد، فقاعة درامية سرعان ما تزول... شخصية لا يبقى من ملامحها سوى جملة، أو متكأ لفظي يستخدمه هذا الممثل أو ذاك على امتداد الحلقات، ثم يستخدمه أطفال الحارة في ألعابهم اليومية... و"منتهيّة"!