ترجمة مهيار ديب عن النص الأصلي لمقالة Was Jesus a Revolutionary للكاتب والمفكر تيري إيغلتن.
عيدُ الفصحِ هو الوقت الذي يُقال إنّ يسوعَ المسيح قام فيه من الأموات، بعد أن عُلِّقَ على صليبٍ لستّ ساعاتٍ بين لِصّين. ويُقال إنّ واحدًا من اللّصين قد خُلِّصَ، الأمر الذي يصفه صموئيل بيكيت بأنّه نسبة معقولة. لكنّه يبقى من المستبعد أن يكون جارا يسوع هذان لصين على الإطلاق. حتّى الرومان لم يكونوا من الساديّة بما يكفي ليُجروا واحدةً من أفظع عقوباتهم - ألا وهي الصّلب - على اثنين من اللصوص العاديين.
نظرًا إلى أنّ الدولة الرومانيّة كانت تدّخر هذا العقاب للمتمرّدين السياسيّين والعبيد الآبقين بصورة تكاد تكون حصرية، الأرجح أن يكون من دُعيا باللّصين منتميين إلى الصنف الأوّل. والحال، أنّهما كانا في أغلب الظنّ من الزيلوت (الغيورين)، أعضاء في تلك الحركة السرّية المناهضة للإمبراطورية التي كانت تريد أن تطرد الرومان وأن تستبدل بهم دولة يهوديّة نقيّة يديرها الكهنة. ولسوف يطلق الزيلوت بعد بضعة عقود من موت يسوع تمردًا كان ذا عواقب كارثيّة. وهو ما جعل الزيلوت محلّ هجاء ساخر في فيلم فرقة "مونتي بايثون" الموسوم "حياة برايان" بوصفهم نوعًا من حزب العمّال الاشتراكي من القرن الأوّل.
لم يكن إنزال الألم هدف الصّلب (crucifixion)، على الرغم من اشتقاق كلمة "excruciating" (مؤلم ألمًا مبرّحًا) من تلك الممارسة. بل كان الإعلان عن عجز من حاولوا المساس بسيادة الرومان، لثني الآخرين عن فعل الشيء ذاته. وباتت جثثهم المشوّهة إعلاناتٍ لسلطة روما، معلّقةً في إذلال علنيّ في طرف المدينة. حتّى إنّ عقاب يسوع بدا أخفّ قليلًا.
لقد سبق أن ارتكبتُ خطأ الإشارة إلى هذا في حديثٍ على راديو "بي بي سي"، وتلقيتُ كومة من الرسائل الساخطة من مسيحيّين إنجيليين وعدوا بالصلاة لروحي على الرغم من شكّهم العميق أنَّ لديّ روحًا. لكنّه يبقى صحيحًا أنّ يسوع لم يبق على الصليب سوى ستّ ساعاتٍ، بينما كانت هنالك ضحيتان أخريان جُلدتا لأيّام. ولعلّ الجَّلدَ الذي ناله قد ساعده على المضي في طريقه. إذا كنتَ على وشك أن تُصلَب، افقد أكبر قدر ممكن من الدم.
إنْ كان من دُعيا باللّصين ثائرين، فهل كان يسوع ثائرًا أيضًا؟ لعلّ كتّاب الأناجيل أسقطوا بعضًا من المادة المتفجرة سياسيًّا من أجل التقرّب من السّلطات. كان المسيحيّون آنذاك عرضةً لاضطهاد همجيّ، وتصويرهم قائدهم كنموذجٍ أوّلي للينين ما كان ليروق من في السلطة. ومن الصحيح أنّ كثيرًا مما قاله يسوع ربّما وقع على مسامع متفرّجٍ عابر كما كان يمكن لكلام زيلوتي فعلي أن يقع. ويكاد يكون مؤكَّدًا أنّه كان ثمة زيلوت في بطانته. ولعلَّ يهوذا الاسخريوطي واحدٌ منهم. ولعلّه غدر بمعلّمه لأنّه انتظر منه أن يقود الشعب اليهودي ضد قوى الاحتلال وخاب أمله تلك الخيبة المريرة حين لم يفعل. كما أنّ بطرس، اليد اليمنى ليسوع، كان يحمل سيفًا، الأمر الغريب بالنسبة إلى صيّادٍ جليليّ.
من جهةٍ أخرى، دعا يسوع لأن تؤدَّى الضرائب لقيصر، وهو ما كان الزيلوت يدعون لنقيضه. كما أنّه استنزل لعناتٍ مخيفةٍ على رؤوس الفريسيين الذين كانوا، على هذا النحو أو ذاك، الجناح اللاهوتي للزيلوت، ربّما كي يقيم مسافة بينه وبين هؤلاء المناضلين.
جرى تصوير الفرّيسيين، بالمناسبة، على نحو شديد السوء. وإذا ما كانوا محط إعجاب معظم اليهود بسبب تقواهم وأعمالهم الحسنة، فإنَّ العهد الجديد حطّ من قدرهم باعتبارهم حَرفيين ومنافقين. ويعتقد بعض المسيحيين المعاصرين أنّ اليهوديّة تدور حول ما هو خارجيّ وجمعيّ، بينما تدور المسيحيّة حول ما هو داخليّ وفرديّ. اليهود مناصرون للشريعة، أمّا المسيحيّون فحواريّو المحبة. وما كان كتّاب الأناجيل الذين كانوا يهودًا نفسهم، ليصدّقوا شيئًا من ذلك الهراء اللاهوتيّ، وما كان يسوع ليصدّق ذلك. لكنّ من الممكن بالفعل أن نستكشف بذور المعاداة المسيحية للسّامية في تلطيخ صورة الفرّيسيين.
يحاول يسوع أن يطيح ما يمكن أن ندعوه صورة الله الشيطانية؛ أي فكرة الله كبطريرك، كأب كبير، كحَكَم وأنًا أعلى، وهي الصورة التي عليك أن تشتري منها سبيلكَ إلى الجنّة بأن تكون صالحًا ومحترمًا إلى أبعد حدّ. ووفقاً لهذه النّظرية، فإنّه إذا ما كان بمقدورك أن تتخذ إلهًا بأي حال من الأحوال، فبمقدورك أيضًا أن تتخذ وغدًا وقذرًا كبيرًا يسعه أن يخلّصك من ذنبك بضربك على فتراتٍ منتظمة، وليس إلهًا لطيفًا يقرأ صحيفة "الغارديان" ويسمح لنا بأن نقتل ابنه من دون قتالٍ حتّى. إله يسوع، على النقيض من ذلك، ليس حَكَمًا بل محامي دفاع. ولا يمكنك أن تحفر صورًا لهذا الإله لأنَّ صورته الوحيدة هي من لحمٌ ودم.
يحاول يسوع أن يطيح ما يمكن أن ندعوه صورة الله الشيطانية؛ أي فكرة الله كبطريرك، كأب كبير
لم يكن يَهْوَه اليهودي الأب الكبير الفعلي بل الدولة الإمبراطورية التي كان ممثّلها المحلي وقتذاك بيلاطس البنطي. ويُصوَّر هذا الحاكم الروماني في الأناجيل كليبراليّ متردد، حسن النيّة، وواهنٍ ذي توجّه عقلي ميتافيزيقي ("ما الحقّ؟" يسأل يسوع)، من ذلك النوع من الرجال الذي يمكنك أن تتخيّله وهو يتصرف باعتدال في الـ"بي بي سي". ولأنّه ذلك الرجل اللائق، فإنّه لا يريد أن يكون شديد العقاب على ذلك الشاب التقي المُلْغِز الذي رأى فيه بيلاطس أحد أفراد حشد كاملٍ من الأنبياء المشعرين، غريبي الأطوار، الهيبيين، والمشعوذين الذين يزحمون شوارع القدس في عيد الفصح اليهودي. ولا بدّ أنّ المكان بدا شبيهًا بعض الشيء بمهرجان "وودستوك". لكنّ بيلاطس لا يسعه، في النهاية، أن يقف في وجه التماسات رعاع اليهود، فيرسل يسوع إلى حتفه.
لا شيء من هذا صحيح، على الأغلب. ذلك، أولًا، لأنّ يسوع كان يتمتّع بشعبيةٍ واسعةٍ بين عامّة الناس الذين ما كانوا ليدعوا إلى صلبه. ومثل نجم حديث من نجوم الروك، كان عليه أن يختبأ من معجبيه المفتونين به. وذلك، ثانيًا، لأنّ بيلاطس لم يكن بأي حالٍ من الأحوال ذلك الرجل اللائق كما تصوّره الأناجيل. ونحن نعلم من مصادر أخرى أنّه كان مستبدًّا بلا رحمة يقتل السجناء، ويُعدمُ بغمضة عين، وسبق أن اتّهم بتلقي الرشى، والقسوة والإعدام من خارج القانون، قبل أن يمثل يسوع أمامه. وما كان ليتخطّى مقابلته الأولى في "بي بي سي". بل إنّه صُرف في النهاية من الخدمة الإمبراطوريّة بسبب سلوكه المشين، وكي تُصرف من الخدمة الإمبراطورية لدى الرومان، كان لا بدّ أن تكون بلا شرف إلى أبعد حدّ. وكان ليُدين يسوع، دع عنك جدّته هو نفسه، من دون أن يرفّ له جفن، ومن دون حاجة لأن يعتقد أنّه مذنب.
حاول كتّاب الأناجيل أن يزيحوا لائمة موت المسيح من بيلاطس نفسه إلى الشعب اليهودي، في محاولة جديدة لإرضاء السلطات الحاكمة. ولكن لماذا قُتلَ المسيح أصلًا؟ صحيحٌ أنَّ أسلوب حياته ربما كان مسيئًا للمؤسّسة اليهودية. إذ كان بلا مأوىً، شريدًا، خالي الوفاض، عازبًا، محنة للأثرياء وأصحاب النفوذ، نصير المحرومين، مسترخيًا حيال الجنس، عازفًا عن السلع المادية ومعاديًا للأسرة (تكاد كلّ إشارة إلى الأسرة في العهد الجديد أن تكون سلبية للغاية). كما طالب بسلطة استثنائية، لشخصٍ من منطقة ريفية منعزلة مثل الجليل، الأمر الذي كان غريبًا مدهشًا.
ما كان لأيٍّ من ذلك أن يجعله يلتحق بمدرسة حاخامية، لكن أيًّا من ذلك ما كان أيضًا ليجعله يتخطّاها ويسمو فوقها. فهو لا يقول مباشرةً إنّه ابن الله، وحتى لو أنّه فعل، ما كان لذلك أن يوقعه في مشكلة بالضرورة. فجميع اليهود أبناء الله وبناته. وهو لا يقول أيضًا إنّه المسيح المُنْتَظر. وبدلًا من ذلك، نجده يهزأ، بروحٍ كرنفاليّة، من فكرة الملكية برمّتها بدخوله العاصمة راكبًا على حمار. علاوةً على ذلك، لا يودي المُسَحَاءُ المنتظرون بأنفسهم إلى الصلب. وفكرة المسيح المنتظر المصلوب كانت لتصدم يهود ذلك الزمن على أنها ضرب من الفحش. وعلى أي حال، ما كان الرومان ليعيروا أدنى اهتمام للنزاعات اللاهوتية بين تابعيهم المُستَعْمَرين. ولم يأتوا بالمطرقة والمسامير من أجل ذلك.
لكنهم كان يمكن أن يفعلوا ذلك في حال حسبوا أنّ حركة يسوع حركة تحريضيّة. ومن زرع هذا الشكّ في أذهانهم هو على الأرجح مجلس الكهنة اليهود أو السنهدرين. لعلّ الكهنة ما كانوا يصدقون أنّ يسوع متمرّد محتمل، لكنّه ربّما كان من الملائم لهم أن يتظاهروا بأنّهم يصدقون ذلك. كان الجوّ السياسيّ في العاصمة في عيد الفصح متوترًا للغاية، وكان بإمكان يسوع أن يوفّر الشّرارة التي تُضرمُ النّيران هناك. وكان السنهدرين على قناعة بأنّ أيّ انتفاضةٍ من هذا القبيل ستلقي بكامل قوّة السلطة الرومانية على كاهل شعبهم المنحوس، ولعلّه خافَ عليهم بحقّ. وعزم على أن يدرأ كارثةً، وتوجّب أن يكون يسوع كبش الفداء. لذلك، لعلّ المسيح أُرسلَ إلى حتفه كمحرّض سياسي من دون أن يصدق القادة اليهود أو الرومان أنّه كان كذلك، وفي حالة الرومان، من دون أن يعيروا ذلك أيّ اهتمام.
كانت مريم المجدليّة أوّلُ من اكتشف أنَّ قبر يسوع فارغٌ، ما يعني أنّ خبرَ قيامته وصل مسامع العالم من طريق من كانت تُعرَف بأنّها امرأة ساقطة. وكانت برفقة نساءٍ أُخريات، شهدْنَ جميعًا بأنّ يسوع قام من الأموات. ولا بدّ أنَّ هذا كان محرجًا للمسيحيين الأوائل؛ لا لأنّ مريم كانت ذات طابع أخلاقي مشبوه، بل لأنّ شهادة امرأة كانت تُعتبر بلا قيمة. وما رأت الجماعة المسيحية أنّه الحدث الأهم في التاريخ البشري، اعتمد على شهود لا يُعوَّل عليهم. ويبدو أنَّ هذا فحسب هو سبب تبرئة هؤلاء النساء وعدم إدانتهن. ولو كان بوسع كتّاب الأناجيل أن يتخطوا هذه الواقعة المحرجة، لفعلوا ذلك ربما؛ لكنّ حقيقةَ أنّهم لم يفعلوا تشير إلى أنّه كان يُعتَقَد على نطاق واسع أنَّ استبعادها من الأناجيل سيبدو غريبًا ومستهجنًا.
يحذّر يسوع أتباعه أنّهم إذا ما تكلموا على العدل والصداقة كما فعل، فإنَّ الدولة ستودي بهم إلى المصير ذاته. وثمة كثيرٌ من الزيلوت المعاصرين الذين تعلّموا هذا الدرس بالتجربة. ورسالة الأناجيل هي أنّك إذا ما أحببت بطريقة معينة، فمن المحتمل أن تُقتل. ذلك حلم بعيد المنال. أمّا إذا غلَبَتْ رؤيتنا المحبة على أنّها، مثلًا، مسألة إيروسية ورومانسية، وليس مسألة إطاحةٍ بالديكتاتوريات، فليس لذلك أن يعود علينا بقدر كبير من الإزعاج. إنَّ واحدًا من أكبر أخطاء الحقبة الحديثة هو رؤية المحبة على أنّها شخصية فحسب. وهذا ما لا يمكن أن يُتَّهَم به مؤلّفو العهد الجديد، كائنةً ما كانت نواقصهم الأخرى.