سوريا وتقنين العيش

من دمشق إلى حلب مرورًا بالعاصي فالجزيرة والساحل، توحّدُ السوريين معيشةٌ تُظللها عتمة الأيام، وتتعطل الأعمال فيها بسبب غياب الكهرباء وغلاء أسعار الحلول والبدائل.

عديدة هي التحليلات والدراسات المكتوبة حول قطاع الطاقة في سوريا. معظمها يتناول آثار الأزمة والحرب والعقوبات، ويتفحص نسب دمار البنى التحتية، ويدرس احتياطيات الوقود الأحفوري أو القدرات الكامنة للطاقات المتجددة. ولكن ما يغيب، في كثير من الأحيان، هو قصص الناس ومعاناتهم اليومية في الظلمة، وتعطّل معيشتهم كما أجهزتهم الكهربائية. هذه المادة هي لأولئك السوريين ولكفاحهم اليومي. 


بدور شحادي من دمشق وريفها

لم يخسر أحمد معدّاته فقط بسبب الكهرباء، بل حلمه أيضًا بالعمل في مجال الموسيقى الذي رعاه لسنوات. مجرد لحظات من تيار كهربائي بتردد عالٍ كانت كافية لتغيير مساره المهني بعد مناورات عدة قام بها للتحايل على تقنين الكهرباء.

بدأ الشاب عمله في استديو لتسجيل الأغاني والتوزيع الموسيقي والمونتاج في قدسيا بريف دمشق عام 2015. لكن تزايد أوقات تقنين الكهرباء التي صارت تنقطع لاثنتي عشرة ساعة مقابل نصف ساعة من وصل التيار فقط، دفعه لنقل معداته العام الماضي إلى منزله في دمّر في دمشق التي تصلها الكهرباء لنصف ساعة أكثر فحسب، ولكنها منحت أحمد مزيدًا من الوقت للعمل. لكنّ مفاجأة أخرى كانت تنتظره في دمّر. ففيما كان يعمل على تحرير أحد المشاريع، وصل تيار كهربائي ذو تردد عالٍ وتسبب في تعطل أجهزة التسجيل والمزج الموسيقي، بالإضافة إلى حاسوبه النقال والميكروفون.

"كنت أتقاضى راتبًا جيدًا مقابل تقديمي عمل احترافي" يقول أحمد. ويضيف واصفًا وضعه اليوم: "لكن منذ سنة وبعد أن تعطلت معداتي بسبب الكهرباء، استخدمت الهاتف بديلًا أعمل عليه من خلال التطبيقات المتاحة، وهذا أثّر على جودة العمل ودقته، مما أدى إلى انخفاض دخلي الشهري الذي لا يتناسب مع الغلاء".

يتابع: "عملي يعتمد أيضًا على الاتصال بالإنترنت، وكون الكهرباء شبه معدومة، لجأت إلى البطارية الخارجية لتأمين شحن لهاتفي ولجهاز الراوتر. أحيانًا أذهب للمقاهي، لكن هذا آخر حل ألجأ إليه في حال عدم توافر الإنترنت بسبب المصروف الكبير الذي يترتب عليه". ويختم كلامه مستهزئًا: "أصبحنا نعيش على البطارية".

دمشق، ضاحية قدسيا (آذار/مارس 2023)

أما رهف (اسم مستعار) فهي تُعفي نفسها من مهام المنزل في حال عدم توافر مياه ساخنة لتتجنب شعورها الفظيع بالألم نتيجة إصابتها بمتلازمة رينو، بحسب أخيها بسام (اسم مستعار). داء رينو يصيب شرايين الجسم الصغيرة ويتسبب بتضييقها، خصوصًا بسبب البرد أو التوتر، ما يحد من تدفق الدم إلى المناطق المصابة في الأطراف.

رهف وبسام من سكان دوما في ريف دمشق ممن يعتمدون على "اشتراك الأمبيرات" مصدرًا بديلًا للكهرباء الحكومية التي تصلهم لمدة 45 دقيقة فقط خلال اليوم منذ العام 2020 بحسب بسام. تتوزع مولدات الكهرباء الخاصة في أحياء مدينة دوما، وتؤمن الكهرباء للمشتركين بتسعيرة تبلغ 5,000 ليرة سورية لكل كيلوواط ساعي.

دوما، ريف دمشق (آذار/مارس 2023)

يدفع بسام نحو نصف دخله الشهري بدل اشتراك، بما يعادل "135 ألف ليرة شهريًا لتشغيل أساسيات المنزل فقط". ويبقى همه الأكبر تأمين التدفئة شتاءً لأخته رهف، فيلجأ إلى الحطب ويدفع المزيد لأن "رسالة إتاحة المازوت على البطاقة الذكية لم تصل".

وبرغم تمنيات بسام بتحسن واقع الكهرباء، فإن من يسكن دمشق وجوارها يعرف تميّزها بمناطق تنعم بتغذية كهربائية أكثر من مناطق أخرى. وفي دمشق، هناك أيضًا من لديه القدرة المادية على تأمين البدائل، ومن يخسر عمله بسبب نقص الطاقة. وكثيرًا ما يظهر التفاوت في حصص التغذية بين أحياء متجاورة. على سبيل المثال، في منطقة تعد راقية كحي المزة فيلات، يصل التيار الكهربائي بمعدل ساعتين مقابل كل أربع ساعات انقطاع، أما في المزة 86 التي يغلب عليها طابع العشوائيات، فقد يحصل السكان على ساعة تغذية واحدة مقابل ست ساعات انقطاع، وذلك من دون ذكر فترات حدوث الأعطال التي قد تمتد لأيام.

ويمكن تعميم هذا الواقع على معظم الأحياء في دمشق بحسب "أهميتها". والأكثر حظًا هم أولئك الذي يسكنون على خط تغذية إحدى المؤسسات الحكومية الحيوية، أو المراكز الأمنية، فقد يحصلون بفضل ذلك الموقع على أربع أو حتى ست ساعات من التغذية خلال النهار.


محمود أبو راس من حلب وريفها

في حلب، قلب سوريا الصناعي وعقدة طرقها التجارية التاريخية، تغيب الكهرباء عن البيوت والأسواق على حد سواء، ويرزح السكان تحت وطأة التقنين الطويل أو البدائل الباهظة الثمن.

وبسبب الانقطاعات الطويلة للتيار الكهربائي، تواجه عفراء سلوم (اسم مستعار) صعوبات كبيرة في تنفيذ أعمالها المنزلية اليومية. "عندما بدأت الحرب، كانت الكهرباء تنقطع طوال 13 ساعة في اليوم"، تتذكر عفراء، وتتابع بالقول "وبعد سنة 2014 انتهى وجود الكهرباء تمامًا، وذلك لغاية عام 2016 عندما عادت التغذية بمعدل 3 ساعات يوميًا. أما اليوم فهي تصلنا بمعدل ساعتين فقط خلال اليوم".

وفيما يزداد أثر تقنين الكهرباء على المنشآت الصناعية، خصوصًا مع ارتفاع الأسعار المترافق مع ازدياد الطلب على الطاقة، ترى عفراء انعكاسًا مباشرًا لهذا على حياة الناس بسبب تضاعف أسعار المنتجات. يلجأ بعض أصحاب المنشآت إلى ألواح الطاقة الشمسية كمصدر بديل للكهرباء، ولكن المولدات العاملة على الديزل أقدر على تشغيل الآلات الثقيلة.   

لا يقف الاعتماد على المولدات عند المنشآت الصناعية، بل تنتشر أيضًا في معظم أحياء المدينة، وتعمل وفق نظام اشتراك السكان بالأمبيرات. "من يرغب بتشغيل البراد أو الغسالة مع التلفاز يحتاج للاشتراك بثلاث أمبيرات، والسعر ليس بقليل بالنسبة لنا"، تقول عفراء. وتتابع موضحة؛ "الاشتراك اليومي من العاشرة صباحًا لغاية الحادية عشرة مساءً تتراوح تسعيرته بين 45 ألف و50 ألف ليرة سورية، أما الاشتراك لنصف يوم من الخامسة مساءً ولغاية الثانية عشرة ليلًا فتبلغ تسعيرته 25 ألفًا للأمبير الواحد."

أرغمت الزيادات المتتالية في الأسعار كثيرًا من سكان المنطقة على العزوف عن الاشتراك، والعودة لاستخدام بدائل قديمة للحصول على الإضاءة، على الأقل مساءً، مثل الشموع أو مصابيح الكاز.

أما في مخيمات النزوح في شمال غرب سوريا، فيلجأ معظم القاطنين إلى الطاقة الشمسية، لكن غلاء أسعار الألواح الشمسية وسوء نوعية البطاريات يشكلان عقبة لدى معظم السكان. 

أحمد قلعه جي، نازح من مدينة معرة النعمان جنوبي إدلب إلى مخيمات بلدة قاح على الحدود السورية التركية، تعرض لبعض الحروق في جسده بعد انفجار البطارية الكهربائية وتطاير الأسيد على وجهه. وهو يعتقد أن معظم انفجارات البطاريات في المخيمات ناجمة عن غياب المنظمات الكهربائية المكلفة التي تفصل البطارية عن لوح الطاقة عند امتلائها. وبحسب أحمد، فإن شراء مجموعة طاقة شمسية كاملة يكلف ما لا يقل عن 400 دولار أميركي.

يؤكد حازم شيبان، وهو نازح آخر في مخيمات بلدة أبين سمعان في ريف حلب الغربي، على الصعوبات المرتبطة بتلف البطاريات ذات العمر المحدود، قائلًا: "تَلفُ البطارية والعجزُ عن تبديلها من أكبر المصائب التي تحل علينا، فعليك إما البقاء في الظلام أو بيع شيء من مقتنياتك البسيطة لتشتري أخرى".

 

انتشار ألواح الطاقة الشمسية في مخيمات النازحين شمال غرب سوريا/ عبد العزيز حاج أحمد

بعض مناطق شمال سوريا الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية اعتمدت على وجود بنى تحتية وشبكات قديمة كي تبدأ باستجرار الكهرباء من تركيا منذ العام 2018 عن طريق شركات تركية خاصة. من هذه الشركات "AK Energy" التي تزوّد أعزاز وعفرين والريف المحيط شمالي حلب بالكهرباء، وشركة "Green Energy" التي بدأت منتصف عام 2021 بتزويد محافظة إدلب بالكهرباء التركية. 

ساعات الكهرباء التركية المسبقة الدفع في بلدة باتبو، ريف حلب الغربي/ ليث دغيم

عدّ السكان هذه الطريقة حلًا مقبولًا في البداية، ولكن سرعان ما رفعت الشركات تسعيرتها بنحو أربعة أضعاف، فبات الاشتراك يشكل عبئًا، خصوصًا مع إلزام المشتركين بشراء عداد خاص وتركيبه بتكلفة 50 دولار أميركي تقريبًا. استمرار ارتفاع الأسعار سيجبر يحيى السفراني، مثلًا، وهو أحد سكان مدينة الدانا في ريف إدلب الشمالي، على إلغاء اشتراكه. بحسب يحيى، "أصبحت فاتورة الكهرباء ما بين ربع إلى نصف الدخل الشهري". أما محمد عبد الكريم الحلبي الذي يمتلك ورشة حدادة في مدينة إدلب، فلم يعد يرى الاشتراك بالكهرباء التركية مجديًا عند مقارنة ما ينتجه من عمل ودخل مع تكلفة الكهرباء، خصوصًا مع وضع الشركة شروطًا من قبيل الحد الأدنى لتعبئة الاشتراكات المسبقة الدفع وتسديد رسوم النظافة. 


نور الأحمد من الجزيرة السورية

تُعرف محافظات شمال شرق سوريا، الحسكة والرقة ودير الزور، بوصفها سلة البلاد الغذائية ومصدر الطاقة فيها لما تحويه من حقول قمح ونفط على حد سواء. لكن نفط الجزيرة لا يعني اليوم أن المنطقة تنعم بإمداد كهربائي أفضل من باقي المحافظات. فبرغم وقوعها تحت سيطرة "الإدارة الذاتية"، مع وجود محدود لبعض مؤسسات الحكومة السورية في المدن الرئيسة، فإن مشكلات الجزيرة في مجال إدارة الطاقة وتوزيعها لا تختلف كثيرًا عن سائر أنحاء سوريا.

يبقى الاعتماد الأكبر للسكان في مختلف الأحياء على الاشتراك بمولدات كهربائية خاصة، تزود البيوت والمحال بالتيار بحسب أمبيرات الاستهلاك، بأسعار تختلف من مدينة إلى أخرى، ومن مولد إلى آخر، على النحو الذي تختلف فيه تغذية الشبكة الكهربائية العامة.

في الحسكة، مثلًا، غالبًا ما يشترك السكان بتغذية تمتد على ثماني ساعات خلال اليوم وبتكلفة تبلغ 9,000 ليرة سورية شهريًا للأمبير الواحد. أما التيار الكهربائي على الشبكة، فهو يصل لساعتين فقط في اليوم في غالب الأيام، إلا في بعض أيام الحظ النادرة، حين تصل التغذية إلى ست ساعات. ولأجل هذه الخدمة النادرة يدفع السكان مبلغًا مقطوعًا يختلف بين سلطتي حكومة دمشق و"الإدارة الذاتية". تعتمد شركة الكهرباء الحكومية ـــ كما العادة ـــ نظام دورات الفواتير التي تصدر كل شهرين بمبلغ 1,000 ليرة سورية، بينما أقرّت كهرباء "الإدارة الذاتية" نظام الدورتين في السنة بمبلغ 12,000 ليرة سورية لكل دورة.

أما في الرقة التي تقع تحت سيطرة "الإدارة الذاتية" على نحو شبه تام، فيعتمد السكان على تغذية كهربائية تصلهم عبر الشبكة بمعدل سبع ساعات يوميًا، وتتراوح فاتورتها ما بين 10 آلاف و20 ألف ليرة سورية شهريًا. وما تبقى من ساعات اليوم، تتولى المولدات الخاصة أيضًا تعويضه وبأسلوب مشابه لما هو معتمد في الحسكة.

"كل أسبوع ندفع تقريباً 56 ألف ليرة بين الكهرباء العادية والمولدات، يعني بالشهر أكثر من 200 ألف ليرة" تقول أم عبد الله من مدينة الرقة، "وأنا أرملة وابني عنده عيلة وراتبه يا دوب 400 ألف، طيب من وين بدنا ناكل ونشرب ونعيش، إذا الكهربا نص الراتب؟" تشرح أم عبد الله وضعها الذي لا يختلف عن وضع الآلاف من سكان المدينة.

ارتباط المنطقة بالمصادر المائية والسدود يزيد فرص توافر الكهرباء في مواسم بدايات الشتاء والربيع حين يتحسن مستوى تدفق نهر الفرات، ولكنه أيضاً يعني انقطاعاً للتغذية بشكل شبه كامل لأسابيع عند انخفاض منسوب النهر. سوى أن المنطقة لا تعدم مصادر الطاقة النظيفة الأخرى، فنسبة التعرض الشمسي فيها عالية، علاوة على توافر مساحات تسمح بإنشاء مشروعات طاقة شمسية كبيرة نسبياً. ولكن، لغاية اليوم، لا يزال استثمار أشعة الشمس محصوراً بمبادرات فردية ومكلفة غالباً.

تبلغ تكلفة تركيب مجموعة الطاقة الشمسية 1,000 دولار أميركي، متضمنة ثمانية ألواح مع البطارية وباقي المستلزمات. وبرغم ارتفاع هذا الرقم، فإن بعض سكان المنطقة يُقدمون على دفعه في سبيل الحصول على ساعات إضافية للإنارة وتشغيل بعض الأجهزة البسيطة. وما يبدو رفاهية لدى البعض أو هدرًا للمال لدى البعض الآخر، يراه كثيرون ضرورة لاستمرار معيشتهم وسلامهم النفسي.

"أنا ما أقدر اشتغل بلا كهربا" يقول أبو مصعب، مالك محل لإصلاح الأدوات الكهربائية في حي المفتي بالحسكة. ثم يتابع موضحًا معضلته: "عندي مولدة للمحل، ولكن ما عادت وفّت معي بين كلفة المحروقات وإصلاحات المولدة. ولمّا اطلب من الناس أجرة إصلاح غسالتهم مثلا يقولون غالي، طيب أنا شو أعمل بحالي؟ اعتمادنا على الكهربا، ولو كانت تكلفتها عالية أحسن ما تكون على حسابنا، ويا ريت يقدرون يأمنولنا كهربا مثل قبل الحرب والله تعبنا!".

يتردد صدى كلمات أبو مصعب في مختلف البيوت والمحال التجارية، بين أطفال وكبار في السن يحتاجون إلى الكهرباء لتأمين مستوى عيش مقبول، ومهنيين في مختلف المجالات لا يمكنهم ممارسة أعمالهم بلا حد أدنى من التغذية الكهربائية. ولكن تبقى التكاليف المرتفعة لجميع أنواع الطاقات المعتادة أو البديلة العامل الأكبر الذي يكبّل أيدي سكان الجزيرة السورية تجاه واحد من أبسط حقوق المواطنة والحياة الكريمة.


ندى حبال من حماة

"تخيّل الحياة دون كهرباء".

طغت هذه العبارة على حديث السوريين ونكاتهم بعد اعتمادها من قبل وزارة الكهرباء شعارًا لحملتها "معًا لترشيد الطاقة" في بدايات العام 2021. وإذ بدت هذه العبارة وكأنها نذير شؤمٍ لأيام أحلك ستأتي على السوريين، فإن أهل حماة لم يعودوا بحاجة إلى سعة الخيال، فهم باتوا يحلمون بساعتين متواصلتين لا غير من التغذية الكهربائية لأداء أكثر المهام المنزلية بديهيةً.

وليس الوضع على الصعيد المؤسسي بأفضل، فأزمة الطاقة لحقت بأغلب المؤسسات الرسمية والخاصة من جامعاتٍ ومصارف وشركات ومحال تجارية. حتى شركات الاتصال تأثرت خدماتها بشكلٍ كبير بفعل نقص الوقود اللازم لتشغيل المولدات التي تغذي أبراج الاتصالات، فباتت أحياء كاملة، كحي جنوب الملعب والقصور على سبيل المثال، تعاني من ضعف التغطية أو انعدامها أحيانًا. وقد وصل نقص التغذية الكهربائية في حماة حدًا دفع الجامعة الافتراضية السوريّة قبل فترة إلى تأجيل الامتحانات أسبوعًا كاملًا (قبل حدوث الزلزال)، لأسبابٍ لم تكشفها في البداية، لكن اتضّح فيما بعد أنها مرتبطة بأزمة الطاقة.

تقول يارا (اسم مستعار): "لم نستطع تقديم الامتحانات من تاريخ 15/1 إلى 22/1، بسبب عدم وجود الكهرباء من الأساس، وعدم توافر المازوت اللازم للمولدة، وبالتالي لم يكن بالإمكان تشغيل الكمبيوترات وشبكة الإنترنت اللازمة لسير الامتحانات، وهذه ليست المرة الأولى".

في مكانٍ آخر في حماة، ينتظر بشار ح. دوره على الصراف الآلي لقبض راتبه الذي لم يعد يكفيه أكثر من ثلاثة أيام. "أنتظر هنا منذ ساعتين، فالازدحامُ شديدٌ على الصراف الآلي" يقول بشار، ويتابع شارحًا سبب الازدحام: "يتعرض الصراف الآلي لأعطال بشكل دائم، وعند إصلاحه تغيب الكهرباء عنه معظم الشهر، فلا يتسنَى لنا قبض الرواتب إلا في أيام محدودة عندما يُزود بالكهرباء، وعندها يصبح الازدحامُ هو المشكلة الأكبر".

وقد تكون الأزمة وصلت إلى أوجها في حماة عندما تطال واحدًا من أهم رموزها: حلاوة الجبن! في "سلّورة"، أقدم محال حلاوة الجبن في المدينة، يشرح عامل (لم يرغب ذكر اسمه) أثر نقص الكهرباء على الصنعة: "اضطررنا تحت وطأة التقنين الكهربائي الكبير إلى الاعتماد على المولدات لتوفير التبريد للمواد المستخدمة في صناعة حلاوة الجبن، ولحفظها أيضًا بعد صناعتها خصوصًا في الصيف، ما رفع تكاليف الإنتاج وبالتالي اضطررنا إلى رفع الأسعار، فانخفض الطلب عليها من قِبل سكان المدينة بعد أن كانت تحليتهم المفضلة، واقتصر الطلب الأكبر على من يأتون من خارج المدينة، فمن سيختار شراء كيلو حلاوة جبن بـ 15 ألف ليرة سورية بدل توفير اللقمة لعائلته؟".

محل سلورة لحلاوة الجبن، حماة

ولأن "ما في شي مالو حلّ" عند أهل حماة، ولاعتيادهم تعاقب الأزمات والعيش خلالها، شرعوا بالبحث عن بديل مستدام لتوفير الكهرباء ولو "شوية ضو!"، وكان هذا البديل هو ألواح الطاقة الشمسية، التي ملأت أسطح البنايات حتى كادت تكون المشهد السائد في المدينة. ولا تختلف أسطح الأبنية السكنية الحديثة عن البيوت العربية القديمة في ازدحامها بألواح الطاقة الشمسية التي وصلت حتى دوار قلعة حماة.

 

انتشار ألواح الطاقة الشمسية على أسطح الأبنية في حماة

انتشر استخدام ألواح الطاقة الشمسية في ريف حماة أيضًا. ففي بلدة كرناز مثلًا، بدأ المزارعون باستخدام الألواح لتوفير المياه لري المزروعات، ما ساهم بزيادة الإنتاج بتكاليف منخفضة مقارنةً بالمولدات. واليوم تحوي محافظة حماة أكبر المزارع الشمسية بقدرة 1 ميغاواط. لا تبيع المزارع الشمسية الطاقة مباشرة للمستهلك بل يجري ربطها بالشبكة العامة وفق اتفاق بين شركة الكهرباء ومستثمر المزرعة الشمسية الذي يبيع بموجبه الطاقة المنتجة للشركة.

وبرغم أن هذا البديل صديق للبيئة وأفضل من كل البدائل الأخرى، فإن الأزمة الاقتصادية جعلت أشعة الشمس "المجانية" حكرًا على البعض دونًا عن الآخر. تبلغ تكلفة اللوح الشمسي الواحد اليوم ما بين 125 و250 دولار أميركي، حسب حجم اللوح، فيما تبلغ تكلفة باقي المجموعة من هيكل معدني حامل للألواح وبطارية وشاحن ورافع جهد وأسلاك ما بين 250 و300 دولار أميركي.

ارتفاع الكلف دفع البعض إلى الإحجام عن تركيب مجموعات الطاقة الشمسية، فيما استنزف مدخرات البعض الآخر. يُبرز هذا الوضع شيئًا من التفاوت الطبقي الذي يظهر بتفاوت أحجام الألواح الشمسية أو تعددها أو غيابها حتى. ولكن ما يبقى لافتًا هو خلو أسطح المؤسسات الرسمية ـــ حتى هذه اللحظة ـــ من هذا البديل النظيف.


نينار الخطيب من اللاذقية

"كل ست ساعات تقريبًا ننعم بالكهرباء لمدة ربع ساعة، أو عشر دقائق، أو لا نراها أبدًا". بهذه الكلمات تعبّر أم سامي عن الأوضاع التي تعيشها في اللاذقية، المدينة التي أصبحت أزمة الكهرباء فيها جزءًا من الحياة المعاشة، تضاف إلى أزمات الوقود وارتفاع الأسعار وغيرها.

تقول السيدة التي تبلغ من العمر نحو 40 عامًا، وهي أم لطفلين: "قمنا مثل جميع السوريين بتركيب بطارية للإضاءة، إلا أن دقائق وصل التيار المعدودة لا تكفي لشحنها. يضطر زوجي بين وقت وآخر إلى أخذ البطارية وشحنها عند أصدقائه. أحدهم يملك مولدًا صغيرًا لمحله، والآخر قام بالاشتراك في نظام الأمبيرات الذي شاع بشكل كبير في المدينة". وتضيف: "معظم الوقت بطاريات هواتفنا فارغة، والتغطية تزداد سوءًا، ويدرس أولادنا في ظروف إنارة غير إنسانية".

الانقطاعات الطويلة للكهرباء قوّضت كثيرًا من أوجه الحياة المدينية، وملأت الشوارع بدخان المولدات وضجيجها، وكذلك بالأسلاك العشوائية. وتحت وطأة التقنين الجائر للكهرباء، راجت مصادر بديلة متعددة للطاقة لمن يملك ثمنها، يعتمد البعض على "الاشتراك بالأمبيرات" كما باقي المحافظات، لكن تكلفته تبلغ 40 ألف ليرة أسبوعيًا للأمبير الواحد، أي ما يفوق متوسط الرواتب العام. وبعض البدائل الأخرى قائم على تركيب ألواح الطاقة الشمسية والبطاريات ذات الجودة المنخفضة في غالب الأحيان أيضًا، ما يزيد من تكلفة صيانتها.

وكما تتراكم مشكلات مصادر الطاقة البديلة هذه، ونادرًا ما تعتبر حلًا مرضيًا على المدى الطويل، تتبدى كل يوم معضلات جديدة تمس معيشة السكان. يقول هيثم دباليزي، وهو أحد سكان قرية كرسانا شمالي اللاذقية، إنهم يعانون في كامل المنطقة من الأعطال المتكررة، ويشرح: "تارة تتعطل المحوّلة، ومرة تتسبب العواصف بانقطاع الأسلاك، وفي كثير من الأحيان تتعرض الأسلاك للسرقة من اللصوص ليقوموا ببيعها بالكيلو. نحن نستطيع التأقلم مع عدم وجود تغطية لهواتفنا بسبب نقص الوقود المشغل لبطاريات أبراج شركات الاتصالات، لكن لا يمكننا التأقلم مع العديد من الأمور الأكثر أهمية كحاجتنا للكهرباء لضخ مياه الري".

يوضح الرجل الذي يعمل في الزراعة أن أزمة المياه متفاوتة بين القرى، وتتعلق بالمسافة التي تفصل القرية عن السدود أو منابع المياه، ويضرب مثالًا قريته التي يغذيها سد تشرين، حيث توجد أعطال في بعض القساطل الأمر الذي يتسبب بأزمات في سقاية المزروعات ويدفع المزارعين لشراء المياه عبر الصهاريج للري.

وبرغم واقع الكهرباء المأسوي، تقوم وزارة الكهرباء خلال الشتاء، مع الانخفاض الشديد في درجات الحرارة، بتأمين التيار الكهربائي لبعض المناطق التي تنتشر فيها البيوت البلاستيكية التي تتطلب الزراعة فيها درجات حرارة معينة، الأمر الذي يخفف جزئيًا من معاناة المزارعين. غير أن هذا الإجراء لا ينسحب على بقية المناطق التي تزداد فيها ساعات التقنين مع انخفاض درجات الحرارة، ما يجعل تدفئة المنازل، في ظل ندرة المحروقات وارتفاع أسعارها، وارتفاع أسعار الحطب، مهمة شاقة لا يقدر كثيرون على القيام بها.

خلال حديثها، تستذكر أم سامي أحد الإعلانات التي وزعتها وزارة الكهرباء منذ نحو عامين ضمن حملة لترشيد استهلاك الطاقة، وتقول ضاحكة: "كان شعار الحملة: تخيل الحياة بلا كهرباء". وتضيف قائلة: "نحن في اللاذقية نعيش بلا كهرباء، ومن لا يمكنه تخيل الأمر يستطيع أن يأتي ويجرّب العيش هنا".


لمَ لا تكترث اليهودية القومية الجديدة في إسرائيل للرهائن في غزة؟

كيف تمثّل الحرب في غزة بالنسبة لليمين الإسرائيلي المتطرف "الدراما الوطنية المطلقة، وفرصة نادرة لاستعادة..

أوان
هل كان يسوع ثائرًا؟

إنْ كان من دُعيا باللّصين ثائرين، فهل كان يسوع ثائرًا أيضًا؟ لعلّ كتّاب الأناجيل أسقطوا بعضًا من المادة..

أوان
3 أسئلة لبيار ستمبول، الناطق باسم "الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام"

"معظم الجمعيات اليهودية في فرنسا تدعم جرائم إسرائيل وتعتبرنا خونة". ما الذي يقوله بيار ستمبول، الناطق..

أوان

اقرأ/ي أيضاً لنفس الكاتب/ة